وقرأ ورش بإبدال همزة مؤذن واوا وقفا ووصلا ، وحمزة في الوقف فقط ، والباقون بالقصر. (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) فقفوا حتى ننظر الذي فقد لنا ، والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء من حرز مثله. فإن قيل : هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليهالسلام أو ما كان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف عليهالسلام مع علو منصبه أن يبهت أقواما وينسبهم إلى السرقة كذبا وبهتانا؟ وإن كان بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة؟ أجيب : بأجوبة :
الأوّل : أنه عليهالسلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال : لست أفارقك قال : لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق بك. قال : رضيت بذلك ، وعلى هذا لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام ؛ لأنه قد رضي به فلا يكون ذلك ذنبا.
الثاني : (إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ) يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة من الكذب.
الثالث : أنّ المنادي إنما ذكر النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا يخرج أن يكون كذبا.
الرابع : ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا هذا بأمر يوسف عليهالسلام. قال الرازي : والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم ؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها ، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها. ولما وصل إليهم الرسول قال لهم : ألم نحسن ضيافتكم ونكرم مثواكم ونفيكم كيلكم وفعلنا بكم ما لم نفعل بغيركم؟ قالوا : بلى ، وما ذاك؟ قالوا : سقاية الملك فقدناها ولا نتهم عليها غيركم فذلك قوله تعالى :
(قالُوا وَ) الحال أنهم قد (أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ،) أي : على جماعة الملك المنادي وغيره (ما ذا ،) أي : ما الذي (تَفْقِدُونَ) مما يمكننا أخذه والفقدان ضدّ الوجود (قالُوا نَفْقِدُ) وكان للسقاية اسمان فعبروا بقولهم : (صُواعَ الْمَلِكِ) والصواع هو المكيال وهو السقاية المتقدّمة سموه تارة كذا وتارة كذا ، وإنما اتخذوا هذا الإناء مكيالا لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ ،) أي : من الطعام ، والبعير يطلق لغة على الذكر خاصة وأطلقه بعضهم على الناقة أيضا ، وجعله نظير إنسان وهو ما جرى عليه الفقهاء في باب الوصية ، والجمع في القلة على أبعرة ، وفي الكثرة على بعران (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) قال مجاهد : هذا الزعيم هو الذي أذن ، والزعيم الكفيل ، وهذه الآية تدل على أنّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم ، وقد حكم بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قوله : «الزعيم غارم» (١).
وإذا ورد في شرعنا ما يقرّر شرع غيرنا ، هل يكون شرعا لنا؟ في ذلك خلاف والراجح أنه ليس بشرع لنا. فإن قيل : كيف تصح هذه الكفالة مع أنّ السارق لا يستحق شيئا؟ أجيب : بأنهم لم يكونوا سراقا في الحقيقة فيحمل ذلك على مثل رد الضائع ، فيكون ذلك جعالة أو أنّ مثل هذه الكفالة ، كانت جائزة عندهم في ذلك الزمان.
(قالُوا ،) أي : إخوة يوسف عليهالسلام (تَاللهِ) التاء حرف قسم ، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ، والواو بدل من الباء ، فهي فرع الفرع ، فلذلك ضعفت عن التصريف في الأسماء ،
__________________
(١) أخرجه أبو داود في البيوع باب ٩٠ ، والترمذي حديث ٢١٢٠ ، وابن ماجه حديث ٢٤٠٥ ، وأحمد في المسند ٥ / ٢٦٧ ، ٢٩٣.