الاهتمام بما وقع التكليف لهم به ومن أحوال الدنيا ومقابلة فطرهم القويمة السليمة بردّها إلى ما تدعوهم إليه الحظوظ والشهوات حتى لا يكون طب لمخلوق.
ولما أخبر تعالى عن دخولهم إلى البلد أخبر عن دخولهم لحاجتهم إلى يوسف عليهالسلام. فقال : (وَلَمَّا دَخَلُوا ،) أي : إخوة يوسف عليهالسلام (عَلى يُوسُفَ) في المقدمة الثانية بأخيهم بنيامين قالوا : هذا أخونا فقال : أحسنتم واحتسبتم وستجدون خير ذلك عندي ، ثم أنزلهم وأكرم منزلهم ، ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة ، فبقي بنيامين وحيدا فبكى وقال : لو كان أخي يوسف حيا أجلسني معه ، فقال يوسف : لقد صار أخوكم هذا وحيدا فأجلسه معه على مائدته ، وصار يؤاكله فلما كان الليل أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتا ، فبقي بنيامين وحده فقال يوسف : هذا ينام معي على فراشي كما قال تعالى (آوى) أي : ضم (إِلَيْهِ أَخاهُ) فبات معه وجعل يوسف يضمه إليه ويشمه ثم قال له : ما اسمك؟ فقال : بنيامين ، قال : وما بنيامين؟ قال : المثكل وذلك أنه لما ولد هلكت أمّه. قال : وما اسم أمّك؟ قال : راحيل بنت لاوي. قال : فهل لك من ولد؟ قال : نعم عشرة بنين. ولما رأى تأسفه لأخ له هلك ، قال له : أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك؟ فقال : ومن يجد أخا مثلك ولكنك لم يلدك يعقوب ولا راحيل ، فبكى يوسف وقام إليه وعانقه (قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ) أي : لا تحزن (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ،) أي : بشيء فعلوه بنا فيما مضى ، فإنّ الله قد أحسن إلينا فلا تلتفت إلى أعمالهم المنكرة التي قد أقدموا عليها ، وقد جمعنا الله تعالى على خير ولا تعلمهم بشيء من ذلك.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء ، والباقون بالسكون ، ومدّ بعد النون من أنا قبل الهمزة المفتوحة نافع ، والباقون بالقصر ، ثم إنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا ، وكان في المرّة الأولى أبطأ في تجهيزهم في طول المدّة ليتعرّف أخبارهم من حيث لا يشعرون ، ولذلك لم يعطف بالفاء ، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرّة قصدا إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبّرها فلذلك أتت الفاء في قوله :
(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ ،) أي : اعجل جهازهم وأحسنه (بِجَهازِهِمْ جَعَلَ) بنفسه أو بمأذونه (السِّقايَةَ ،) أي : المشربة التي كان يشرب بها (فِي رَحْلِ أَخِيهِ ،) أي : وعاء طعام أخيه بنيامين كما فعل ببضاعتهم في المرّة الأولى. قال ابن عباس : كانت من زبرجد. وقال ابن إسحاق : كانت من فضة وقيل : من ذهب. وقال عكرمة : كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر ، وجعلها يوسف عليهالسلام مكيالا لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها.
قال الرازي : هذا بعيد ؛ لأنّ الإناء الذي يشرب فيه الملك لا يصلح أن يجعل صاعا ، وقيل : كانت الدواب تسقى بها ، قال : وهذا أيضا بعيد ؛ لأنّ الآنية التي تسقى الدواب فيها لا تكون كذلك ، وقال : والأصوب أن يقال : كان ذلك الإناء شيئا له قيمة أمّا إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا ، والسقاية والصواع واحد ، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف عليهالسلام حتى انطلقوا وذهبوا منزلا ، وقيل : حتى خرجوا من العمارة ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم (ثُمَّ أَذَّنَ ،) أي : أعلن فيهم بالنداء (مُؤَذِّنٌ) قائلا برفع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه بما دل عليه إسقاط الأداة (أَيَّتُهَا الْعِيرُ ،) أي : القافلة ، قال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير. قال : وقول من قال العير الإبل خاصة باطل ، فقوله : (أَيَّتُهَا الْعِيرُ ،) أي : أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي. قال الفراء : كانوا أصحاب إبل. وقال مجاهد : كانت العير حميرا.