أجيب عنها : بأنّ الأصل في جواب هذه الأسئلة أنّ التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان وإنما كان ذلك واجبا عليه لوجوه :
الأوّل : أنه كان رسولا حقا من الله تعالى إلى الخلق والرسول يجب عليه مراعاة الأمة بقدر الإمكان.
والثاني : أنه علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضيق الشديد ، فلعله تعالى أمره أن يدبر في ذلك ويأتي بطريق لأجله يقل ضرر ذلك القحط في حق الخلق.
والثالث : أن السعي أيضا في إيصال النفع إلى المستحقين ورفع الضرر عنهم أمر مستحسن في العقول ، فكان مكلفا عليهالسلام برعاية المصالح من هذه الوجوه ، وما كان يمكنه رعايتها إلا بهذا الطريق ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإنما مدح نفسه ؛ لأنّ الملك وإن علم كماله في علوم الدين لكن ما كان عالما بأنه يفي بهذا الأمر ، وأيضا مدح النفس إنما يكون مذموما إذا قصد به الشخص التطاول والتفاخر والتوصل إلى غير ما يحل ، وأمّا هذا الوجه فليس بمذموم وقوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم ، ٣٢] المراد به تزكية حال من لا يعلم كونها مزكاة والدليل قوله تعالى بعد هذه الآية : (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) [النجم ، ٣٢] أمّا إذا كان الإنسان عالما بأنه صدق وحق فهذا غير ممنوع منه ، وإنما ترك الاستثناء ؛ لأنه لو ذكره بما اعتقد الملك فيه إنه إنما ذكره لعلمه أنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي ، فلهذا المعنى ترك الاستثناء.
ولما سأل يوسف عليهالسلام ما تقدم قال معلما بأنه قد أجيب بتنجيز الله تعالى له : (وَكَذلِكَ ،) أي : كإنعامنا عليه بالخلاص من السجن (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ،) أي : أرض مصر (يَتَبَوَّأُ ،) أي : ينزل (مِنْها حَيْثُ يَشاءُ) بعد الضيق والحبس قال ابن عباس وغيره : ولما انقضت السنة من يوم سأل الأمارة دعاه الملك فتوجه وجعل خاتم الملك في إصبعه وقلده سيفه وجعل له سريرا من ذهب مكللا بالدرّ والياقوت طوله ثلاثون ذراعا وعرضه عشرة أذرع عليه ستون فراشا ، فقال يوسف عليهالسلام : أما السرير فأشدّ به ملكك ، وأمّا الخاتم فأدبر به أمرك ، وأمّا التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي ، وأمره أن يخرج فخرج لونه كالثلج ووجهه كالقمر يرى الناظر وجهه في صفاء لونه ، فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت له الملوك ودخل الملك بيته وفوّض إليه أمر مصر ، وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق : قال ابن زيد : وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلم سلطانه كله إليه وجعل أمره وقضاءه نافذا في مملكته ، ثم مات قطفير بعد ذلك فزوّجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما كنت تريدين؟ قالت : أيها الصديق لا تلمني ، فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء ، وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي ، فوجدها يوسف عليهالسلام عذراء فأصابها فولدت له ذكرين افراثيم وميشا ، فأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء ، وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ، ثم بالدواب في السنة الثالثة ، ثم بالعبيد والإماء في السنة الرابعة ، ثم بالضياع والعقار في السنة الخامسة ، ثم بأولادهم في السنة السادسة ، ثم برقابهم في السنة السابعة حتى لم يبق بمصر حرّ ولا حرّة إلا صار عبدا له ، فقال الناس : ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم من هذا صار كل الخلق