الأحزان ، وتجربة الأصدقاء ، وشماتة الأعداء. ثم أتى الملك فلما رآه غلاما حدثا فقال : أيعلم هذا رؤياي ولا يعلمها السحرة والكهنة؟! ثم أقعده قدّامه وقال له : لا تخف وألبسه طوقا من ذهب وثيابا من حرير ، وأعطاه دابة مسرجة مزينة كدابة الملك ، وروي أنّ جبريل عليهالسلام دخل على يوسف وهو في الحبس وقال : قل : اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا ، وارزقني من حيث لا أحتسب ، فقبل الله تعالى دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه من السجن ، وروي أنّ يوسف لما دخل عليه قال : اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ، ثم سلم عليه بالعربية فقال : ما هذا اللسان؟ قال : هذا لسان عمي إسماعيل ، ثم دعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان؟ قال : هذا لسان آبائي ، قال وهب : كان الملك يتكلم بسبعين لغة ولم يعرف هذين اللسانين ، وكان الملك كلما كلمه بلسان أجابه يوسف عليهالسلام وزاد بالعربية والعبرانية (فَلَمَّا كَلَّمَهُ ،) أي : كلم الملك يوسف عليهالسلام وشاهد منه ما شاهد من جلال النبوّة وجميل الوزارة وخلال السيادة ومخايل السعادة أقبل عليه وقال : إني أحبّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاها ، فأجابه بذلك الجواب شفاها وشهد قلبه بصحته فعند ذلك.
(قالَ) له (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ،) أي : ذو مكانة وأمانة على أمرنا فما ترى أيها الصديق؟ (قالَ) أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن ، وتجمع فيها الطعام فإذا جاءت السنين المجدبة بعنا الغلال فيحصل بهذا الطريق مال عظيم ، فقال الملك : ومن لي بهذا الشغل؟ فقال يوسف : (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) جمع خزانة وأراد خزائن الطعام والأموال ، والأرض أرض مصر ، أي : خزائن أرضك مصر ، وقال الربيع بن أنس : أي : خرج مصر ودخله.
وروى ابن عباس عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في هذه الآية قال : «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكنه لما قال ذلك أخره الله تعالى سنة فأقام في بيته سنة مع الملك» (١). قال الرازي : وهذا من العجائب ؛ لأنه لما تثاقل عند الخروج من السجن سهل الله تعالى عليه ذلك على أحسن الوجوه. ولما سارع في ذكر هذا الالتماس أخر الله تعالى ذلك المطلوب عنه ، وهذا يدل على أنّ ترك التصرف أتم ، والتفويض بالكلية إلى الله تعالى أولى ، ثم قال : (إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ،) أي : ذو حفظ وعلم بأمرها ، وقيل : كاتب وحاسب. فإن قيل : لم طلب يوسف عليهالسلام الإمارة والنبيّ صلىاللهعليهوسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : «لا تسأل الإمارة» (٢). ولم طلب الإمارة من سلطان كافر ، ولم لم يصبر مدّة ، ولم أظهر الرغبة في طلبها في الحال ، ولم طلب أمر الخزائن في أوّل الأمر مع أن هذا يورث نوع تهمة ، ولم مدح نفسه وقد قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم ، ٣٢] ولم ترك الاستثناء في هذا وقد قال تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤] فهذه سبعة أسئلة؟.
__________________
(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٤٠٢ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٢٣ ، والألباني في السلسلة الضعيفة ٣٢٩.
(٢) أخرجه البخاري في كفارات الأيمان حديث ٦٧٢٢ ، ومسلم في الأيمان حديث ١٦٥٢ ، وأبو داود في الخراج حديث ٢٩٢٩ ، والترمذي في النذر حديث ١٥٢٩ ، والنسائي في القضاة حديث ٥٣٨٤.