(ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) إن كان من كلام يوسف عليهالسلام ، وقد مرّ أنه قول الأكثرين فهو أيضا كلامه ، وإن كان من كلام المرأة ، فهذا أيضا كلامها ، فعلى الأوّل قد تمسك به الحشوية ، وقالوا : إنه عليهالسلام لما قال : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قال له جبريل : ولا حين حللت تكة سراويلك فعند ذلك قال يوسف عليهالسلام : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي. إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ،) أي : بالزنا (إِلَّا ما رَحِمَ ،) أي : عصم منه (رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ ،) أي : للهم الذي هممته (رَحِيمٌ ،) أي : لو فعلته لتاب عليّ ، وهذا ضعيف كما قاله الرازي لما تقدّم أنّ الآية المتقدّمة برهان قاطع على براءته من الذنب ، وإنما قال ذلك عليهالسلام ؛ لأنه لما قال : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) كان ذلك جاريا مجرى مدح النفس وتزكيتها وقد قال تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم ، ٣٢] فاستدرك ذلك على نفسه بقوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) والمعنى : وما أزكي نفسي (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) ميالة إلى القبائح راغبة في المعصية.
وعلى الثاني : أنها لما قالت : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) قالت : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) من الخيانة مطلقا ، فإني قد خنته حي أحلت الذنب عليه وقلت : (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ) وأودعته في الحبس ، كأنها أرادت الاعتذار مما كان ، واختلف في قوله :
(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤))
(وَقالَ الْمَلِكُ) فمنهم من قال : هو العزيز ، ومنهم من قال : هو الريان الذي هو الملك الأكبر. قال الرازي : وهذا هو الأظهر لوجهين :
الأوّل : أنّ قول يوسف (اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ) يدل عليه.
الثاني : قوله (أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي) يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا وقد كان يوسف عليهالسلام قبل ذلك خالصا للعزيز فدل هذا على أنّ هذا الملك هو الملك الأكبر انتهى. وإنما صرّح به ولم يستغن بضميره كراهية الالتباس لما تخلل بينه وبين جواب امرأة العزيز من كلام يوسف عليهالسلام ، ولو كان الكل من كلامها لاستغنى بالضمير ، ولم يحتج إلى إبرازه (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ،) أي : أجعله خالصا لي دون شريك. قال ابن عباس : فأتاه الرسول فقال له : ألق عنه ثياب السجن وألبسه ثيابا جددا ، وقم إلى الملك فدعا له أهل السجن وهو يومئذ ابن ثلاثين سنة ، واغتسل وتنظف ولبس ثيابا جددا بعد أن دعا لأهل السجن فقال : اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار ولا تعمّ عنهم الأخبار ، وكتب على باب السجن هذه منازل البلوى ، وقبور الأحياء ، وبيوت