إليّ ، وتبرئة نفسه ، فقد شهد النسوة كلهنّ ببراءته ، وإنه لم يقع منه ما ينسب به إلى شيء من السوء البتة ، فمن نسب بعد ذلك هما أو غيره فهو تابع لمجرّد الهوى في نبيّ من المخلصين.
قال الرازي : رأيت في بعض الكتب أنّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادّعت عليه المهر ، فأمر القاضي بأن تكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من إقامة الشهادة. فقال الزوج : لا حاجة إلى ذلك فإني مقرّ بصدقها في دعواها. فقالت المرأة : لما أكرمتني إلى هذا الحدّ فاشهدوا أني أبرأت ذمّتك من كل حق لي عليك.
ولما رجع الرسول إلى يوسف عليهالسلام وأخبره بشهادتهنّ ببراءته قال : (ذلِكَ ،) أي : الخلق العظيم في تثبتي في السجن إلى أن تبين الحق (لِيَعْلَمَ) العزيز بإقرارها وهي في الأمن وأنا في محل الضيق والخوف علما مؤكدا (أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ ،) أي : في أهله ولا في غيرها (بِالْغَيْبِ ،) أي : والحال أنّ كلا منا غائب عن صاحبه هذا قول الأكثرين أنه قول يوسف عليهالسلام ، قال الفراء : ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام آخر إذا دلت القرينة عليه ومثاله قوله تعالى : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) [النمل ، ٣٤] هذا كلام بلقيس ، ثم قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل ، ٣٤] وقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران ، ٩] كلام الداعي ثم قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) ثم ختم الكلام بقوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي ،) أي : يسدّد وينجح بوجه من الوجوه (كَيْدَ الْخائِنِينَ ،) أي : ولو كنت خائنا لما خلصني الله من هذه الورطة العظيمة ، وحيث خلصني منها ظهر أني بريء عما نسبوني إليه.
وقيل : إنه كلام امرأة العزيز ، والمعنى : أني وإن كنت أحلت عليه الذنب في حضوره لكني ما أحلت الذنب عليه في غيبته ، أي : لم تقل فيه وهو في السجن خلاف الحق ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت : (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) يعني إني لما أقدمت على الكيد والمكر لا جرم افتضحت ، وإنه لما كان بريئا من الذنب لا جرم طهره الله تعالى منه. واعلم أنّ هذه الآية على القول الأوّل دالة على طهارة يوسف عليهالسلام من وجوه كثيرة ؛
الأوّل : قولها : (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ.)
والثاني : قولها : (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وهو إشارة إلى أنه صادق في قوله : (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) [يوسف ، ٢٦].
والثالث : قول يوسف عليهالسلام : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) والحشوية يذكرون أنه لما قال يوسف هذا الكلام قال له جبريل عليهالسلام : ولا حين هممت. قال الرازي : وهذا من رواياتهم الخبيثة وما صحت هذه الرواية في كتاب معتمد ، أي : وإنما أسندها بعضهم لابن عباس بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعيا منهم في تحريف ظاهر القرآن.
ورابعها : أنّ إقدامه على قوله : (ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ) مع أنه خانه بأعظم وجوه الخيانة إقدام على وقاحة عظيمة وعلى كذب عظيم من غير أن يتعلق به مصلحة بوجه ما ، والإقدام على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلا لا يليق بأحد من العقلاء ، فكيف يليق إسناده إلى نبي مرسل من سلالة الأنبياء الأصفياء؟! فثبت أنّ هذه الآية تدل دلالة قاطعة على براءته مما يقول الجهال والحشوية.
واختلفوا في تفسير قوله : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي) لأنّ ذلك يختلف باختلاف ما قبله ؛ لأنّ قوله :