ثم دعاهم إلى الإيمان فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ،) أي : يا صاحبيّ في السجن فأضافهما إلى السجن كما تقول : يا سارق الليلة ، فكما أنّ الليلة مسروق فيها غير مسروقة ، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب وإنما المصحوب غيره وهو يوسف عليهالسلام ، أو يا ساكني السجن كما قيل لسكان الجنة : أصحاب الجنة ، ولسكان النار : أصحاب النار (أَأَرْبابٌ ،) أي : آلهة (مُتَفَرِّقُونَ ،) أي : متباينون من ذهب وفضة وصفر وحديد وخشب وحجارة وصغير وكبير ومتوسط وغير ذلك (خَيْرٌ ،) أي : أعظم في صفة المدح وأولى بالطاعة (أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ،) أي : المتوحد بالألوهية الذي لا يغالب ولا يشارك في الربوبية غيره خير ، والاستفهام للتقرير ، وفي الهمزتين في (أَأَرْبابٌ) من القراءات ما في (أَأَنْذَرْتَهُمْ) وقد مرّ.
فإن قيل : هل يجوز التفاضل بين الأصنام وبين الله تعالى حتى يقال : إنها خير أم الله؟ أجيب : بأنّ ذلك خرج على سبيل الفرض ، والمعنى : لو سلمنا أنه حصل منها ما يوجب الخير فهي خير أم الله الواحد القهار.
ثم بين عجز الأصنام فقال : (ما تَعْبُدُونَ) وإنما خاطبهم بلفظ الجمع وقد ابتدأ بالتثنية في المخاطبة ؛ لأنه أراد جميع من في السجن من المشركين. والعبادة خضوع القلب في أعلى مراتب الخضوع ، وبيّن حقارة معبوداتهم وسفالتها بقوله : (مِنْ دُونِهِ ،) أي : الله الذي قام البرهان على إلهيته وعلى اختصاصه بذلك (إِلَّا أَسْماءً) وبيّن ما يريد وأوضحه بقوله : (سَمَّيْتُمُوها ،) أي : ذوات أوجدتم لها أسماء (أَنْتُمْ) سميتموها آلهة وأربابا ، وهي حجارة جماد خالية عن المعنى لا حقيقة لها (وَآباؤُكُمْ) من قبلكم سموها كذلك (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها ،) أي : بعبادتها (مِنْ سُلْطانٍ ،) أي : حجة وبرهان (إِنِ الْحُكْمُ ،) أي : ما الحكم (إِلَّا لِلَّهِ ،) أي : المختص بصفات الكمال والحكم فصل الأمر بما تدعو إليه الحكمة (أَمَرَ) وهو النافذ الأمر المطاع الحكم (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) لأنه المستحق للعبادة لا هذه الأسماء التي سميتموها آلهة. ولما أقام الدليل على هذا الوجه الذي كان جديرا بالإشارة إلى فضله أشار إليه بأداة البعد تنبيها على علوّ مقامه وعظيم شأنه فقال : (ذلِكَ ،) أي : الشأن الأعظم وهو توحيده وإفراده عن خلقه (الدِّينُ الْقَيِّمُ ،) أي : المستقيم الذي لا عوج فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار (لا يَعْلَمُونَ) ما يسيرون إليه من العذاب فيشركون.
ولما قرر يوسف عليهالسلام أمر التوحيد والنبوّة إلى الجواب عن السؤال الذي ذكراه فقال : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ ،) أي : الذي يحصل فيه الانكسار للنفس والرقة في القلب ، فتخلص فيه المودّة ، ولما كان في الجواب ما يسوء الخباز أبهم ليجوّز كل منهما أنه الفائز ، فإن ألجأه إلى التعيين كان ذلك عذرا له في الخروج عن الأليق فقال : (أَمَّا أَحَدُكُما) وهو صاحب شراب الملك (فَيَسْقِي رَبَّهُ ،) أي : سيده (خَمْراً) على عادته ، والعناقيد الثلاثة هي ثلاثة أيام يبقى في السجن ، ثم يدعو به الملك فيردّه إلى رتبته التي كان عليها هذا تأويل رؤياه (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو صاحب طعام الملك (فَيُصْلَبُ) والسلال الثلاثة ثلاثة أيام ، ويدعو به الملك فيصلبه (فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) هذا تأويل رؤياه ، قال ابن مسعود : فلما سمعا قول يوسف عليهالسلام قالا : ما رأينا شيئا إنما كنا نلعب ، فقال لهما يوسف عليهالسلام (قُضِيَ ،) أي : تم (الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ،) أي : تطلبان الإفتاء فيه عملا بالفتوة ، فسألتما عن تأويله وهو تعبير رؤياكما كذبتما أو صدقتما لم أقله عن جهل ولا غلط.