(وَقالَ) يوسف عليهالسلام (لِلَّذِي ظَنَّ ،) أي : علم وتحقق ، فالظنّ بمعنى العلم ؛ لأنه قاله عن وحي لقوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ) ويجوز أن يكون ضمير ظنّ للساقي ، فهو حينئذ على بابه (أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) وهو الساقي (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ،) أي : سيدك ملك مصر بما رأيت مني من معالي الأخلاق وطهارة الشيم الدالة على بعدي مما رميت به ، والمراد بالرب هنا غير المراد به في قوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) فنجا الساقي وصلب صاحبه وفق ما قاله لهما يوسف عليهالسلام ، واختلف في ضمير (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) على قولين :
أحدهما : أنه يعود إلى الساقي ، وهو قول جماعة من المفسرين ، أي : فأنسى الشيطان الساقي أن يذكر يوسف عند الملك قالوا : لأنّ صرف وسوسة الشيطان إلى ذلك الرجل الساقي حتى أنساه ذكر يوسف أولى من صرفها إلى يوسف.
والقول الثاني وعليه أكثر المفسرين : أنه يرجع إلى يوسف عليهالسلام. وقال الرازي : إنه الحق ، أي : أنّ الشيطان أنسى يوسف ذكر ربه تعالى حتى استعان بمخلوق مثله ، وتلك غفلة عرضت له عليهالسلام ، فإنّ الاستعانة بالمخلوق في رفع الظلم جائزة في الشريعة إلا أنّ حسنات الأبرار سيئات المقرّبين ، فهذا وإن كان جائزا لعامّة الخلق إلا أنّ الأولى بالصدّيقين أن يقطعوا نظرهم عن الأسباب بالكلية وأن لا يشتغلوا إلا بمسبب الأسباب ، فلهذا صار يوسف عليهالسلام مؤاخذا بهذا القول ولم يؤاخذه تعالى في تلك القصة البتة بل ذكره بأعظم وجوه المدح والثناء فعلم بذلك أنه عليهالسلام كان مبرأ مما نسبه الجهال والحشوية إليه.
فإن قيل : كيف تمكن الشيطان من يوسف حتى أنساه ذكر ربه؟ أجيب : بأنّ ذلك إنما كان شغل خاطر ، وأمّا النسيان الذي هو عبارة عن ترك الذكر وإزالته عن القلب بالكلية فلا يقدر عليه ، واختلف في قدر البضع في قوله تعالى : (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) فقال مجاهد : ما بين الثلاث إلى التسع. وقال ابن عباس : ما دون العشرة. وقال البغوي : وأكثر المفسرين أنّ البضع في هذه الآية سبع سنين ، وكان قد لبث قبله خمس سنين ، فجملته اثنتا عشرة سنة ، وقال وهب : أصاب أيوب البلاء سبع سنين وترك يوسف في السجن سبع سنين. وقال مالك بن دينار : لما قال يوسف للساقي : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ،) قيل له : يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا لأطيلنّ حبسك ، فبكى يوسف وقال : يا رب أنسى قلبي كثرة البلوى ، فقلت كلمة ، قال الحسن : قال النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «رحم الله يوسف لو لا كلمته التي قالها ما لبث في السجن ما لبث» (١) ثم بكى الحسن وقال : نحن إذا نزل بنا بلاء فزعنا إلى الناس ، ذكره الثعلبي مرسلا وبغير سند. وقال الحسن أيضا : دخل جبريل على يوسف عليهماالسلام في السجن ، فلما رآه يوسف عرفه فقال له : يا أخا المنذرين ما لي أراك بين الخاطئين. فقال له جبريل : يا طاهر يا ابن الطاهرين يقرأ عليك السّلام رب العالمين ويقول لك : أما استحييت مني واستشفعت للآدميين فوعزتي لالبثنك في السجن بضع سنين. قال يوسف : وهو في ذلك عني راض؟ قال : نعم. قال : إذا لا أبالي. وقال كعب : قال جبريل ليوسف : إنّ الله تعالى يقول لك : من خلقك؟ قال : الله. قال : فمن علمك تأويل الرؤيا؟ قال : الله. قال : فمن حببك
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٢٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٤٠١ ، والهيثمي في موارد الظمآن ١٧٤٧.