على أحدهم وسع عليه وإذا احتاج أحدهم جمع له شيئا ، قيل : إنه لما دخل السجن وجد قوما اشتدّ بلاؤهم وانقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يسكنهم ويقول : اصبروا وأبشروا تؤجروا فيقولون : بارك الله فيك يا فتى ما أحسن وجهك وخلقك وحديثك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى؟ قال : أنا يوسف ابن صفيّ الله يعقوب ابن ذبيح الله إسحاق ابن خليل الله إبراهيم ، فقال له عامل السجن : والله يا فتى لو استطعت لخليت سبيلك ، ولكن سأحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
وروي أنّ الفتيين لما رأيا يوسف قالا : لقد أحببناك حين رأيناك ، فقال لهما يوسف : أنشدكما الله أن لا تحباني فو الله ما أحبني أحد قط إلا دخل عليّ من حبه بلاء ، لقد أحبتني عمتي فدخل عليّ بلاء ثم أحبني أبي فألقيت في الجب ، وأحبتني امرأة العزيز فحسبت ، فلما قصا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبر لهما ما سألاه لما علم في ذلك من المكروه على أحدهما.
(قالَ) معرضا عن سؤالهما أخذا في غيره من إظهار المعجزة في الدعاء إلى التوحيد (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ ،) أي : في منامكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ ،) أي : في اليقظة (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) تأويله ، وقيل : أراد به في اليقظة ، يقول : لا يأتيكما طعام ترزقانه من منازلكما تطعمانه إلا نبأتكما بتأويله بقدره ولونه والوقت الذي يصل إليكما قبل أن يصل وأي طعام أكلتم ، ومتى أكلتم وهذه كمعجزة عيسى عليهالسلام حيث قال : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران ، ٤٩] فقالا : هذا فعل العرافين والكهنة. فمن أين لك هذا العلم؟ فقال : ما أنا بكاهن (ذلِكُما ،) أي : هذا التأويل والإخبار بالمغيبات (مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) وفي ذلك حث على إيمانهم ثم قواه بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ ،) أي : دين (قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وكرر لفظة هم للتأكيد لشدّة إنكارهم للمعاد.
ولما ادعى يوسف عليهالسلام النبوّة وأظهر المعجزة أظهر أنه من أهل بيت النبوّة بقوله : (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ليسمعوا قوله ويطيعوا أمره فيما يدعوهم إليه من التوحيد ، فإنّ الإنسان متى ادّعى حرفة أبيه وجدّه لم يستبعد ذلك منه ، وأيضا فكمال درجة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أمر مشهور في الدنيا ، فإذا أظهر أنهم آباؤه عظموه ونظروا إليه بعين الإجلال فكان انقيادهم له أتم وتأثير قلوبهم بكلامه أكمل.
فإن قيل : إنه كان نبيا فكيف قال : اتبعت ملة آبائي ، والنبيّ لا بدّ وأن يكون مختصا بشريعة نفسه؟ أجيب : بأنّ مراده التوحيد الذي لا يتغير ، أو لعله كان رسولا من عند الله تعالى إلا أنه كان نبىء على شريعة إبراهيم عليهالسلام ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بسكون ياء آبائي ، والباقون بالفتح (ما كانَ ،) أي : ما صح (لَنا) معشر الأنبياء (أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) لأنّ الله تعالى طهره وطهر آباءه عن الكفر ونظيره قوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) [مريم ، ٣٥] وإنما قال : (مِنْ شَيْءٍ) لأنّ أصناف الشرك كثيرة ، فمنهم من يعبد الأصنام ، ومنهم من يعبد النار ، ومنهم من يعبد الكواكب ، ومنهم من يعبد الملائكة ، فقوله : من شيء ردّ على هؤلاء الطوائف وإرشاد إلى الدين الحق ، وهو أنه لا موجد ولا خالق ولا رازق إلا الله (ذلِكَ ،) أي : التوحيد (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) بالوحي (وَعَلَى النَّاسِ ،) أي : سائرهم ببعثنا لإرشادهم وتثبيتهم عليه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ ،) أي : المبعوث إليهم (لا يَشْكُرُونَ) هذه النعمة التي أنعم الله تعالى بها عليهم ؛ لأنهم تركوا عبادته وعبدوا غيره.