(الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ،) أي : في محبته قبل أن تتصوّرنّه حق تصوره ولو تصورتنه بما عاينتن لعذرتنني ، ثم إنها صرحت بما فعلت فقالت : (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ،) أي : فامتنع من ذلك الفعل الذي طلبت ، وإنما صرحت بذلك ؛ لأنها علمت أنها لا ملامة عليها منهنّ ، وأنهنّ قد أصابهنّ ما أصابها عند رؤيته ، ثم قالت : (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ ،) أي : وإن لم يطاوعني فيما دعوته إليه (لَيُسْجَنَنَّ ،) أي : ليعاقبن بالحبس (وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ ،) أي : الذليلين المهانين ، فقال النسوة ليوسف : أطع مولاتك فيما دعتك إليه ، فاختار يوسف عليهالسلام السجن على ما دعت إليه فلذلك (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإن كان هذا مما تشتهيه النفس ، وذلك مما تكرهه نظرا إلى العاقبة ، فإنّ الأوّل فيه الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة ، والثاني فيه المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة. فإن قيل : إنّ الدعاء كان منها فلم أضافه إليهنّ جميعا؟ أجيب : بأنهنّ خوّفنه من مخالفتها وزين له مطاوعتها ، وقيل : إنهنّ دعونه إلى أنفسهنّ. قال بعض العلماء : لو لم يقل السجن أحب إليّ لم يبتل بالسجن والأولى بالعبد أن يسأل الله تعالى العافية ، ولذلك ردّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم على من كان يسأل الله الصبر بقوله له : «سألت الله البلاء فاسأله العافية» (١) رواه الترمذي (وَإِلَّا ،) أي : وإن لم (تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ ،) أي : فيما أردن مني بالتثبيت على العصمة (أَصْبُ ،) أي : أمل (إِلَيْهِنَ) يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه واشتاقه (وَأَكُنْ ،) أي : أصر (مِنَ الْجاهِلِينَ ،) أي : من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه ، فإن الحكيم لا يفعل القبيح وفي ذلك دليل على أن من ارتكب ذنبا إنما يرتكبه عن جهالة ، والقصد بذلك الدعاء ولذلك قال تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ،) أي : فأجاب الله تعالى دعاءه الذي تضمنه هذا الثناء ؛ لأنّ الكريم يغنيه التلويح عن التصريح كما قيل (٢) :
إذا أثنى عليك المرء يوما |
|
كفاك من تعرّضه الثناء |
(فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ ،) أي : فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ،) أي : لدعاء الملتجئين إليه (الْعَلِيمُ ،) أي : للضمائر والنيات فيجيب ما صح فيه القصد وطاب منه العزم.
(ثُمَّ بَدا ،) أي : ظهر (لَهُمْ ،) أي : العزيز وأصحابه (مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ ،) أي : الدالة على براءة يوسف عليهالسلام كشهادة الصبيّ وقدّ القميص وقطع النساء أيديهنّ واستعصامه عنهنّ (لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى ،) أي : إلى (حِينٍ) ينقطع فيه كلام الناس ، وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إن هذا العبد العبراني قد فضحني في الناس يقول لهم : إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري فإمّا أن تأذن لي فأخرج وأعتذر وإمّا أن تحسبه كما حبستني ، فعند ذلك وقع في قلب العزيز أنّ الأصلح حبسه حتى يسقط عن ألسنة الناس ذكر هذا الحديث وحتى تقل الفضيحة فسجنه.
تنبيه : في فاعل بدا أربعة أوجه : أحسنها أنه ضمير يعود على السجن بفتح السين ، أي : ظهر لهم حبسه. والثاني : أنّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل وهو بدا ، أي : بدا لهم بداء. والثالث : أنه مضمر يدل عليه السياق ، أي : بدا لهم رأي. والرابع : أنه محذوف وليسجننه قائم
__________________
(١) أخرجه الترمذي في الدعوات حديث ٣٥٢٧.
(٢) البيت من الوافر ، وهو لأمية بن أبي الصلت في الأغاني ٨ / ٣٤١.