يعني الصابرين على النوائب كما صبر يوسف عليهالسلام. وعن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
ولما أخبر تعالى أنّ سبب النعمة عليه إحسانه اتبعه دليله فقال تعالى : (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ،) أي : امرأة العزيز راودت يوسف (عَنْ نَفْسِهِ) لأنها لما رأته في غاية الحسن والجمال طمعت فيه ، ويقال : إنّ زوجها كان عاجزا ، والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب كان المعنى خادعته عن نفسه ، أي : فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشيء الذي لا يريد أن يخرجه من يده يحتال أن يغلبه عليه ويأخذه منه ، وهو عبارة عن التمحل لمواقعته إياها (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ ،) أي : أطبقتها وكانت سبعة ، والتشديد للتكثير أو للمبالغة في الإيثاق ، لأنّ مثل هذا الفعل لا يكون إلا في ستر وخفية لا سيما إذا كان حراما ومع قيام الخوف الشديد (وَقالَتْ) له (هَيْتَ) أي تهيأت وتصنعت (لَكَ) خاصة فأقبل إليّ وامتثل أمري. قال الواحدي : هيت لك اسم للفعل نحو رويد وصه ومه ، ومعناه : هلم في قول جميع أهل اللغة ، وقرأ نافع وابن عامر بكسر الهاء ، والباقون بالفتح وقرأ هشام بعد الهاء بهمزة ساكنة ، والباقون بياء ساكنة ، وقرأ ابن كثير بضم التاء وفتحها ، والباقون بالفتح (قالَ) لها يوسف عليهالسلام (مَعاذَ اللهِ ،) أي : أعوذ بالله وأعتصم به وألجأ إليه مما تدعينني إليه (إِنَّهُ ،) أي : الذي اشتراني (رَبِّي ،) أي : سيدي (أَحْسَنَ مَثْوايَ ،) أي : أكرم منزلي فلا أخونه في أهله وقيل : إنه أي : الله ربي أحسن مثواي ، أي : آواني ومن بلاء الجب أنجاني (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ،) أي : إن فعلت هذه الفعلة فأنا ظالم ولا يفلح الظالمون.
(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها ،) أي : قصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهمّ بالشيء قصده والعزم عليه ، ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بشيء أمضاه والمراد بهمته ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله تعالى من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ ، ولهذا قال بعض أهل الحقائق : الهمّ قسمان : همّ ثابت وهو إذا كان معه عزم وعقد ورضا مثل هم امرأة العزيز ، فالعبد مأخوذ به ، وهمّ عارض وهو الخطرة وحديث النفس من غير اختيار ولا عزم مثل هم يوسف عليهالسلام ، والعبد غير مأخوذ به ما لم يتكلم أو يعمل ، كما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله عزوجل : إذا تحدّث عبدي بأن يعمل حسنة فأنا أكتبها حسنة ما لم يعملها فإذا عملها فأنا اكتبها له بعشرة أمثالها ، وإذا تحدّث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها فإذا عملها فأنا أكتبها له بمثلها» (١).
قال في «الكشاف» : ويجوز أن يريد بقوله : (وَهَمَّ بِها) شارف أن يهم بها كما يقول الرجل : قتلته لو لم أخف الله ، يريد مشارفة القتل ومشافهته كأنّه شرع فيه (لَوْ لا أَنْ رَأى ،) أي : بعين قلبه (بُرْهانَ رَبِّهِ ،) أي : الذي آتاه إياه من الحكم والعلم ، أي : لهمّ بها لكنه كان البرهان حاضرا لديه حضور من يراه بالعين فلم يهمّ أصلا مع كونه في غاية الاستعداد لذلك لما آتاه الله تعالى من القوّة مع كونه في سن الشباب ، فلو لا المراقبة لهمّ بها لتوفر الداعي غير أنّ نور الشهود محاها أصلا ،
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٣١٥ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٩٣.