قال المحققون : أمر العزيز امرأته بإكرام مثواه دون إكرام نفسه يدل على أنه كان ينظر إليه على سبيل الإجلال والتعظيم وهو كما يقال : سلام الله على المجلس العالي. ولما أمر بإكرام مثواه علّل ذلك بأن قال : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا ،) أي : يقوم بإصلاح مهماتنا ، أو نبيعه بالربح إن أردنا بيعه (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ،) أي : نتبناه وكان حصورا ليس له ولد.
قال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة العزيز في يوسف حيث قال لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا ،) وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى : (اسْتَأْجِرْهُ ،) وأبو بكر في عمر حيث استخلفه. (وَكَذلِكَ ،) أي : وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه قلب العزيز (مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ ،) أي : أرض مصر. قال البقاعي : التي هي كالأرض كلها لكثرة منافعها بالملك فيها لتمكنه من الحكم بالعدل والنبوّة ، وقوله تعالى : (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ،) أي : تعبير الرؤيا عطف على مقدر متعلق بمكنّا ، أي : لنمكنه أو الواو زائدة (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ ،) أي : الأمر الذي يريده ؛ لأنه تعالى فعال لما يريد ، ولا دافع لقضائه ولا مانع عن حكمه في أرضه وسمائه أو على أمر يوسف أراد إخوته قتله ، فغلب أمره عليهم ، وأرادوا أن يلتقطه بعض السيارة ليندرس اسمه ، فغلب أمره وظهر اسمه واشتهر ، ثم باعوه ليكون مملوكا فغلب الله أمره حتى صار ملكا وسجدوا بين يديه ، ثم أرادوا أن يضرّوا أباهم ويطيبوا قلبه حتى يخلو لهم وجهه فغلب أمره تعالى فأظهره على مكرهم ، واحتالت عليه امرأة العزيز لتخدعه عن نفسه فغلب أمره تعالى فعصمه حتى لم يهمّ بسوء بل هرب منه غاية الهرب ، ثم بذلت جهدها في إذلاله وإلقاء التهمة عليه فأبى الله تعالى إلا إعزازه وبراءته ، ثم أراد يوسف عليهالسلام ذكر الساقي له فغلب أمره تعالى فأنساه ذكره حتى مضى الأجل الذي ضربه الله تعالى له وكم من أمر كان في هذه القصة وفي غيرها يرشد إلى أنه لا أمر لغيره (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ) وهم الكفار (لا يَعْلَمُونَ) أنّ الأمر كله بيد الله تعالى ، أو أنّ أكثر الناس لا يعلمون ما هو صانع بيوسف وما يريد منه فمن تأمّل في الدنيا وعجائب أحوالها عرف وتيقن أنّ الأمر كله لله ، وأنّ قضاء الله تعالى غالب.
ولما بين تعالى أنّ إخوته أساؤوا إليه وصبر على تلك الشدائد والمحن ومكنه في الأرض اتبعه الأمر بتمام النعمة عليه بقوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ،) أي : منتهى شبابه وقوّته وشدّته تقول العرب : بلغ فلان أشدّه إذا انتهى منتهاه في شبابه وقوّته ، وهذا اللفظ مستعمل في الواحد والجمع يقال : بلغ فلان أشدّه وبلغوا أشدّهم وهو ثلاث وثلاثون سنة. وقال السدي : بلغ ثلاثين سنة ، وقال الضحاك : عشرين سنة. وقال الكلبي : الأشد ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين ، وقيل : أقصاه اثنان وستون سنة. قال الأطباء : إنّ الإنسان يحدث في أوّل الأمر ويتزايد كل يوم شيئا فشيئا إلى أن ينتهي إلى غاية الكمال ، ثم يأخذ في التراجع إلى أن ينتهي إلى العدم والمحاق كالقمر. (آتَيْناهُ حُكْماً ،) أي : حكمة وهو العلم المؤيد بالعمل أو حكما بين الناس (وَعِلْماً ،) أي : علم تأويل الأحاديث ، وقيل : المراد بالحكم النبوّة والرسالة.
وتقدّم أنّ قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا) أنه وحي حقيقة. قال الرازي : فلا يبعد أن يقال : إنّ ذلك الوحي إليه في ذلك الوقت لا لأجل بعثته إلى الخلق بل لأجل تقوية قلبه وإزالة الحزن عن صدره ؛ ولأجل أن يستأنس بحضور جبريل عليهالسلام (وَكَذلِكَ ،) أي : ومثل ذلك الجزاء الذي جزيناه به (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) قال ابن عباس : يعني المؤمنين ، وعنه أيضا يعني المهتدين ، وقال الضحاك :