وَحُزْنِي إِلَى اللهِ)(١). وقال مجاهد : فصبر جميل من غير جزع. وقال الثوري : إنّ من الصبر أن لا تحدّث بوجعك ولا بمصيبتك ولا تزكي نفسك. وروي أنّ يعقوب عليهالسلام كان قد سقط حاجباه وكان يرفعهما بخرقة فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ فقال : يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي.
وروي عن عائشة رضي الله تعالى عنها في قصة الإفك أنها قالت : والله لئن حلفت لا تصدّقوني ولئن اعتذرت لا تعذروني فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وولده والله المستعان على ما تصفون فأنزل الله تعالى في عذرها ما أنزل.
وقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يدل على أنّ الصبر على قسمين قد يكون جميلا ، وقد يكون غير جميل ، فالصبر الجميل أن ينكشف له أنّ هذا البلاء من الحق فاستغراقه في شهود نور المبلي يمنعه من الاشتغال بالشكاية من البلاء ولذلك قيل : المحبة التامّة لا تزداد بالوفاء ولا تنقص بالجفاء ؛ لأنها لو ازدادت بالوفاء لكان المحبوب هو النصيب والخط وموصل النصيب لا يكون محبوبا بالذات بل بالعرض ، فهذا هو الصبر الجميل وأمّا الصبر لا للرضا بقضاء الله تعالى بل كان لسائر الأغراض فذلك الصبر لا يكون جميلا. فإن قيل : الصبر على قضاء الله تعالى واجب ، وأمّا الصبر على ظلم الظالمين فغير واجب ، بل الواجب إزالته لا سيما في الضرر العائد إلى الغير ، فلم صبر يعقوب على ذلك ولم يبالغ في البحث مع شدّة رغبته في حضور يوسف ونهاية حبه له وكان من بيت عظيم شريف وكان الناس يعرفونه ويعتقدون فيه؟.
أجيب : بأنه يحتمل أن يكون منع من الطلب بوحي تشديدا للمحنة عليه زيادة في أجره ، أو أنه لو بالغ في البحث لربما أقدموا على إيذائه ولم يمكنوه من الطلب والفحص فرأى أنّ الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى وقال : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ ،) أي : المطلوب منه العون (عَلى ما تَصِفُونَ ،) أي : تذكرون من أمر يوسف ، والمعنى : أنّ إقدامه على الصبر لا يكون إلا بمعونة الله تعالى ؛ لأنّ الدواعي النفسانية تدعوه إلى إظهار الجزع ، وهي قوية والدواعي الروحانية تدعوه إلى الصبر ، فكأنّ المحاربة وقعت بين الصنفين فما لم تحصل إعانة الله تعالى لم تحصل الغلبة ، فقوله : (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ) يجري مجرى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة ، ٤] وقوله : (وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) يجري مجرى قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة ، ٥].
ولما أراد الله تعالى خلاص يوسف من الجب بين سببه بقوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) وهم القوم المسافرون سموا بذلك ؛ لأنهم يسيرون في الأرض وكانوا رفقة من مدين يريدون مصر ، فأخطؤوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير طريق ، فهبطوا على أرض فيها جب يوسف وكان الجبّ في قفرة بعيدة عن العمران ، أي : لم يكن إلا للرعاة. روي أنّ ماءه كان ملحا فعذب حين ألقي يوسف فيه ، فلما نزلوا أرسلوا رجلا يقال له : مالك بن ذعر لطلب الماء فذلك قوله تعالى : (فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ ،) أي : الذي يرد الماء ليستقي منه ، والوارد هو الذي يتقدّم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء (فَأَدْلى ،) أي : أرسل (دَلْوَهُ) في البئر يقال : أدليت الدلو إذا أرسلتها في
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٨٩ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٣٠٣ ، والطبري في تفسيره ١٢ / ٩٩.