ثم الذي لم ينه عنه خلاف ما نهى في الظاهر ؛ لأنه قال : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) ، وقال فيما نهى (إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) ، ومعلوم أنه قد يجوز أن يبر من لا يجوز أن يتولاه ؛ ألا ترى إلى قوله : (وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) [لقمان : ١٥]؟! ثم نهى عن تولي الكفار بقوله : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] ، ولكنه لما جاز أن يجتمع في نفس واحدة البر وترك التولي ؛ فكذلك جاز أن يؤمر بالبر بمن ينهى عن التولي معه ، والله أعلم.
ثم قوله ـ تعالى ـ : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) يحتمل أن يكون المراد منه لا ينهاكم ، بل يأمركم.
ويحتمل أن يكون معناه : يرخص لكم ؛ كقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] ، ومعناه : بل خسرت ، وإن كان قد يجوز أن يكون التجارة إذا لم تربح لا تخسر ؛ فكذلك قوله ـ تعالى ـ : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ، بل يأمركم أن تبروهم.
ويحتمل أن يكون المراد : بل يرخص لكم أن تبروهم ، والله أعلم.
ثم اختلفوا فيمن أمر ببرهم ونهى [عن] توليهم :
فقال بعضهم : هم المستضعفون من أهل مكة الذين آمنوا في السر وخشوا إظهاره من المشركين ، فأمر الله ـ تعالى ـ المؤمنين بالمدينة أن يبروهم بالكتب إليهم ؛ ليحتالوا في انقياد أنفسهم ؛ لأن المشركين من أهل مكة إذا علموا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ظهر لقتالهم كان يجوز أن يخشى على أولئك المؤمنين المستضعفين ؛ فأمر هؤلاء أن يبروهم بالكتاب إليهم ليتأهبوا في أنفسهم ويحتالوا ؛ لما يخشى عليهم من المشركين ، والله أعلم.
وقال بعضهم : هذا في الذين كان بينهم وبين رسول الله صلىاللهعليهوسلم عهد وذمة ؛ فأمر المؤمنين أن يبروا أولئك في إيفاء عهودهم إلى مدتهم ، ونهاهم عن أن يتولوا من قاتلهم ونقض عهودهم.
وقال بعضهم : في النساء والولدان من المشركين : أمر المؤمنين أن يبروهم بترك القتال ، وألا يتولوا من قاتلهم من جملة الرجال من المشركين من الرجال ، بل يقاتلوهم.
ثم قال : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).
أي : ومن يتولهم في الاعتقاد فأولئك هم الظالمون في حق الاعتقاد.
أو من يتولهم في الأفعال فأولئك هم الظالمون في حق الأفعال ، كما وصفنا في قوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [البقرة : ١٠٨].