وكذلك قوله : (وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ).
خرج مخرج العموم في الظاهر ، ولكن الذين أخرجوه إنما كانوا أهل مكة خاصة دون سائر الكفرة ، فهذا يبين أن ما أجري مجرى العموم لم يجر لظاهر اللفظ ، ولكن لما يوجب الحكمة والدليل. وكذلك قوله ـ تعالى ـ : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ ...) الآية [الجمعة : ٩] : ليس أن السعي إنما فرض يوم الجمعة لتخصيصه بالذكر ؛ ولكن لما أن النداء في يوم الجمعة إلى ذكرين ، وفي غيره من الأيام إلى ذكر واحد ؛ ولأجل أن النداء المضيق في يوم الجمعة هو النداء الأول ، وفي غيره من الأيام هو النداء الثاني ، فإذا جاز أن يكون فرض السعي في يوم الجمعة إنما هو لهذين المعنيين ـ ثبت أن التخصيص ليس لظاهر اللفظ ، والله أعلم.
وفي هذه الآية دلالة رسالته صلىاللهعليهوسلم وذلك أن قوله : (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) أن ذلك الرجل لم يطلع على سره أحدا ، وقد أطلع الله ـ تعالى ـ نبيه ؛ حيث أخبرهم بالكتاب ؛ فثبت أنه علمه بالوحي ، والله أعلم.
ثم اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟
فقال الحسن : إنها نزلت في أهل النفاق.
وقال غيره من عامة المفسرين : إنها نزلت في حاطب بن [أبي] بلتعة (١) ، وهذا أشبه التآويل بالصواب ، وأقرب إلى الحق ؛ وذلك أن الله ـ تعالى ـ [قال] : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) : فقد أخبر أن الكفرة عدو لهم ، ولو كانت الآية في أهل النفاق لم يكن الكفرة عدوّا لهم ؛ بل كانوا أولياء ، فثبت أن المراد منه : المؤمنون ، والله أعلم.
وفي هذه الآية دلالة أن ذلك الذنب الذي ارتكبه ذلك الرجل لم يخرجه من الولاية ؛ لأنه قال : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) ، ولو كان ذلك الذنب يكفره ويخرجه عن الإيمان لم يكن ذلك الكافر عدوّا له ؛ بل يكون وليّا له بقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الجاثية : ١٩] ، ولأجل أنه قال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) : سماه : مؤمنا ، والدليل على أن ذلك الذنب كان كبيرة أنه أخبرهم بأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم جهزهم للقتال ، وفيما أخبر : أمر بأن يستعدوا لقتال النبي صلىاللهعليهوسلم وحربه ، ولا يشكل أن من أمر بقتال رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان مرتكب كبيرة ، وإذا كان كذلك ، وقد أحله الله ـ تعالى ـ في جملة المؤمنين بقوله :
__________________
(١) أخرجه البخاري (٦ / ١٦٦ ، ١٦٧) ، في الجهاد ، باب : الجاسوس (٣٠٠٧ ، ٣٠٨١ ، ٣٩٨٣ ، ٤٢٧٤ ، ٤٨٩٠ ، ٦٢٥٩ ، ٦٩٣٩) ، ومسلم (٤ / ١٩٤١) ، في كتاب فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أهل بدر (١٦١ / ٢٤٩٤).