ثم الاستغفار في حال الحياة له معنيان :
أحدهما : طلب السبب الذي إذا جاءه استوجب المغفرة.
والثاني : حقيقة المغفرة.
وفي حال الوفاة ليس إلا طلب عين المغفرة ، فلما ندب ـ جل وعلا ـ إلى الاستغفار لهم بعد وفاتهم ، وحال الاستغفار بعد الوفاة على ما وصفنا لا يتوجه إلا على حقيقة المغفرة ـ ثبت أن ذنوبهم لم تخرجهم ؛ لأنه لو كان من حكمه ـ جل ثناؤه ـ ألا تحل مغفرتهم إذا ارتكبوا كبيرة لم يكن في الأمر بالاستغفار لهم حكمة ، والله أعلم.
وقال جعفر بن حرب : إنه ليس في قوله : (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا) ما يدل على أنه يجعل في قلوبهم ؛ لأنه إذا قيل : لا تفعل بنا شيئا لم يفهم منه أنه يفعله إذا أحب ، ولكن يجاب عن هذا أنه قال تعالى نصا في آية أخرى ما يدل على جعل العداوة ؛ ألا ترى أنه قال : (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) [المائدة : ١٤].
فإن قال : تأويله : أنه خلى بينهم وبينها ، لا أنه جعلها.
قلنا : غير محتمل أن يخلق الله ـ تعالى ـ العداوة في قلوبهم من غير فعل يكون منهم ، وإن كان كذلك ثبت أنه يخلق هذه الأشياء وقت فعل العبد لها ، والله أعلم.
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ) (١٧)
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ).
هذه الآية تدل على أن الله ـ تعالى ـ جعل حجة رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم قول المنافقين في أنفسهم ؛ لأنهم قالوا هذا القول سرا منهم إلى أهل الكتاب ؛ لأنه لا يحتمل أن يظهروا مثل هذا القول بين يدي المؤمنين ؛ ولا كان الكفار يخبرون بهذا أحدا من المؤمنين ، فلما أخبر