أن يكتسب بذلك العز لنفسه ؛ حيث أخبر أنه قوي بنفسه عزيز بذاته ، ولكن أمرهم بما أمر ، واستعملهم فيما استعمل ؛ لنصر أنفسهم ولقوتهم ، والله أعلم.
قوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، وإنما ذكر نوحا وإبراهيم ـ والله أعلم ـ لما أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب ؛ وإلا قد ذكر الرسل بجملتهم في قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) ؛ فدخل نوح وإبراهيم ـ عليهماالسلام ـ في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) ، ثم ذكر أن منهم من اهتدى ـ أي : من قومهم ـ وكثير منهم فاسقون بقوله : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) ، يخبر رسوله عليه الصلاة والسلام أنه قد كان في قومهم من اتبعهم ؛ فصاروا مهتدين ، ومنهم من ترك اتباعهم ، وخرجوا من أمر الله ؛ فصاروا فاسقين ، يصبره ، ويسكن قلبه على ما كان في قوم من تقدم من الرسل من المجيبين لرسله والتاركين للإجابة كقومك ، أي : لست أنت بأول من كذب ورد قوله ؛ تعنتا وعنادا ، والله الهادي.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا) أخبر أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب ، وبعث منهم رسلا.
ذكر في الآية الأولى أنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب ، ولم يذكر الرسالة ، وذكر في هذه الآية الرسالة فيهم وفي ذريتهم ، أي : أرسلنا رسولا على أثر رسول ، وأتبعنا بعضهم بعضا : من قفا يقفو.
ثم ذكر أنه قفى بعيسى بن مريم ؛ لأن عيسى ـ عليهالسلام ـ من أولاد إسحاق ـ عليهالسلام ـ وبعث محمدا صلىاللهعليهوسلم من بعد ، وهو من ولد إسماعيل ، عليهالسلام.
وقال بعض أهل التأويل (١) : وقفينا أي أتبعنا ، ويقال : قفيت فلانا ، أي : عينته وسميته ، وقفوته أقفوه قفوا وقفيا ، واقتفيت به ، أي : لزمته.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) ، وصف الله تعالى الذين اتبعوا الرسل وآمنوا بهم بالرحمة والرأفة فيما بينهم ، وهو كما ذكر في آية آخرى : (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) [مريم : ٩٦] ، وقال في آية أخرى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، وقال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] ، ونحو ذلك ؛ وذلك لأن السبب الذي جمعهم واحد ، وهو التوحيد والإسلام.
__________________
(١) انظر : تفسير ابن جرير (١١ / ٦٨٩).