فقلتم ما قلتم ، ويكون قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) كلاما مبتدأ لا يتعلق بالقول ، ويجوز أن تكون جملة (إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) مقول القول ، ويريد بذلك إخبارهم بما قاله لهم سابقا : (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (١). (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) طلبوا منه أن يستغفر لهم ، واعترفوا بالذنب ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : ولما رجعوا من مصر ووصلوا إلى أبيهم قالوا هذا القول ، فوعدهم بما طلبوه منه و (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) قال الزّجّاج : أراد يعقوب أن يستغفر لهم في وقت السحر ؛ لأنه أخلق بإجابة الدعاء ، لا أنه بخل عليهم بالاستغفار ، وقيل : أخّره إلى ليلة الجمعة ، وقيل : أخّره إلى أن يستحلّ لهم من يوسف ، ولم يعلم أنه قد عفا عنهم ، وجملة (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) تعليل لما قبله.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (لا تَثْرِيبَ) قال : لا تعيير. وأخرج أبو الشيخ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : «لما فتح رسول الله صلىاللهعليهوسلم مكة التفت إلى الناس فقال : ماذا تقولون؟ وماذا تظنون؟ فقالوا : ابن عمّ كريم ، فقال : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس مرفوعا نحوه. وأخرج البيهقي في «الدلائل» عن أبي هريرة مرفوعا نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء الخراساني قال : طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها عند الشيوخ ؛ ألم تر إلى قول يوسف (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ). وقال يعقوب : (سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي).
أقول : وفي هذا الكلام نظر فإنهم طلبوا من يوسف أن يعفو عنهم بقولهم : (لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) فقال : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) ؛ لأنّ مقصودهم صدور العفو منه عنهم ، وطلبوا من أبيهم يعقوب أن يستغفر الله لهم ، وهو لا يكون إلا بطلب ذلك منه إلى الله عزوجل ، وبين المقامين فرق ، فلم يكن وعد يعقوب لهم بخلا عليهم بسؤال الله لهم ، ولا سيما إذا صح ما تقدّم من أنه أخّر ذلك إلى وقت الإجابة ؛ فإنه لو طلبه لهم في الحال لم يحصل له علم بالقبول.
وأخرج الحكيم الترمذي وأبو الشيخ عن وهب بن منبه قال : لما كان من أمر إخوة يوسف ما كان ، كتب يعقوب إلى يوسف وهو لا يعلم أنه يوسف : بسم الله الرحمن الرحيم ، من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم إلى عزيز آل فرعون ، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد : فإنا أهل بيت مولع بنا أسباب البلاء ، كان جدّي إبراهيم خليل الله ألقي في النار في طاعة ربه ، فجعلها الله عليه بردا وسلاما ، وأمر الله جدّي أن يذبح له أبي ففداه الله بما فداه ، وكان لي ابن وكان من أحبّ الناس إليّ ففقدته ، فأذهب حزني عليه نور بصري ، وكان له أخ من أمه كنت إذا ذكرته ضممته إلى صدري فأذهب عني بعض وجدي ، وهو المحبوس عندك في السرقة ، وإني أخبرك أني لم أسرق ، ولم ألد سارقا ؛ فلما قرأ يوسف الكتاب بكى وصاح وقال : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً). وأخرج أبو الشيخ عن أنس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم
__________________
(١). يوسف : ٨٦.