كلّفهم بما يقدرون عليه ، ورفع عنهم التكاليف التي فيها حرج ، فلم يتعبّدهم بها كما تعبّد بها بني إسرائيل. وقيل : المراد بذلك أنه جعل لهم من الذنب مخرجا بفتح باب التوبة وقبول الاستغفار والتكفير فيما شرع فيه الكفارة والأرش (١) ، أو القصاص في الجنايات ، وردّ المال أو مثله أو قيمته في الغصب ونحوه. والظاهر أن الآية أعمّ من هذا كله ، فقد حطّ سبحانه ما فيه مشقة من التكاليف على عباده ، إما بإسقاطها من الأصل وعدم التكليف بها كما كلّف بها غيرهم ، أو بالتخفيف وتجويز العدول إلى بدل لا مشقة فيه ، أو بمشروعية التخلّص عن الذنب بالوجه الذي شرعه الله ، وما أنفع هذه الآية وأجلّ موقعها وأعظم فائدتها ، ومثلها قوله سبحانه : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٣) وقوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٤) وفي الحديث الصحيح أنه سبحانه قال : «قد فعلت» كما سبق بيانه في تفسير هذه الآية ، والأحاديث في هذا كثيرة ، وانتصاب ملّة في (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) على المصدرية بفعل دلّ عليه ما قبله ، أي : وسع عليكم دينكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم. وقال الزجاج : المعنى اتبعوا ملّة أبيكم إبراهيم. وقال الفراء : انتصب على تقدير حذف الكاف ، أي : كملّة. وقيل : التقدير : وافعلوا الخير كفعل أبيكم إبراهيم ، فأقام الملّة مقام الفعل ، وقيل : على الإغراء ، وقيل : على الاختصاص ، وإنما جعله سبحانه أباهم لأنه أبو العرب قاطبة ، ولأن له عند غير العرب الذين لم يكونوا من ذريته حرمة عظيمة كحرمة الأب على الابن ؛ لكونه أبا لنبيهم صلىاللهعليهوسلم : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) أي : في الكتب المتقدّمة (وَفِي هذا) أي : القرآن ، والضمير لله سبحانه ، وقيل : راجع إلى إبراهيم. والمعنى هو : أي إبراهيم سمّاكم المسلمين من قبل النبي صلىاللهعليهوسلم ، «وفي هذا» أي : في حكمه أن من اتبع محمدا فهو مسلم. قال النحّاس : وهذا القول مخالف لقول علماء الأمة. ثم علّل سبحانه ذلك بقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أي : بتبليغه إليكم (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أن رسلهم قد بلغتهم ، وقد تقدّم بيان معنى هذه الآية في البقرة. ثم أمرهم بما هو أعظم الأركان الإسلامية فقال : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) وتخصيص الخصلتين بالذكر لمزيد شرفهما (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) أي : اجعلوه عصمة لكم ممّا تحذرون ، والتجئوا إليه في جميع أموركم ، ولا تطلبوا ذلك إلّا منه (هُوَ مَوْلاكُمْ) أي : ناصركم ومتولّي أموركم دقيقها وجليلها (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي : لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم ، وقيل : المراد بقوله (اعْتَصِمُوا بِاللهِ) : تمسّكوا بدين الله ، وقيل : ثقوا به تعالى.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) قال : نزلت في صنم. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) قال : الطالب آلهتهم ، والمطلوب الذباب. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) قال : لا تستنقذ الأصنام ذلك الشيء من الذباب. وأخرج الحاكم وصحّحه عنه أيضا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله اصطفى موسى
__________________
(١). «الأرش» : دية الجراحة.
(٢). التغابن : ١٦.
(٣). البقرة : ١٨٥.
(٤). البقرة : ٢٨٦.