تضرّ ولا تقدر على شيء. ثم أراد سبحانه أن يردّ عليهم ما يعتقدونه في النبوّات والإلهيات فقال : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (وَ) يصطفي أيضا رسلا (مِنَ النَّاسِ) وهم الأنبياء ، فيرسل الملك إلى النبي ، والنبيّ إلى الناس ، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته ، أو لتحصيل ما ينفعكم ، أو لإنزال العذاب عليهم (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوال عباده (بَصِيرٌ) بمن يختاره من خلقه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) أي : ما قدّموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشرّ ، كقوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ) (١). (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لا إلى غيره ، ولما تضمن ما ذكره ـ من أن الأمور ترجع إليه ـ الزجر لعباده عن معاصيه ، والحضّ لهم على طاعاته صرح بالمقصود ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي : صلّوا الصّلاة التي شرعها الله لكم ، وخصّ الصلاة لكونها أشرف العبادات. ثم عمّم فقال : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي : افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) أي : ما هو خير ، وهو أعمّ من الطّاعة الواجبة والمندوبة ، وقيل : المراد بالخير هنا المندوبات. ثم علّل ذلك بقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : إذا فعلتم هذه كلّها رجوتم الفلاح. وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه ، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله ، وقد تقدّم أن هذه السورة فضّلت بسجدتين ، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية. ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله ، فقال : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : في ذاته ومن أجله ، والمراد به الجهاد الأكبر ، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل : المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدّمة ، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم ، ومعنى (حَقَّ جِهادِهِ) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد ؛ لأنه أضاف الحقّ إلى الجهاد ، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق ، أي : جهادا خالصا لله ، فعكس ذلك لقصد المبالغة ، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعا ، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولا له ومن أجله. وقيل : المراد بحقّ جهاده هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم ، وقيل : المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي : إن الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٢) كما أن قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) (٣) منسوخ بذلك ، وردّ ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة ، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظّم سبحانه شأن المكلفين بقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي : اختاركم لدينه ، وفيه تشريف لهم عظيم. ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : من ضيق وشدّة.
وقد اختلف العلماء في هذا الحرج الذي رفعه الله ، فقيل : هو ما أحلّه الله من النساء مثنى وثلاث ورباع وملك اليمين. وقيل : المراد قصر الصلاة ، والإفطار للمسافر ، والصلاة بالإيماء على من لا يقدر على غيره ، وإسقاط الجهاد عن الأعرج والأعمى والمريض ، واغتفار الخطأ في تقديم الصيام وتأخيره لاختلاف الأهلّة ، وكذا في الفطر والأضحى. وقيل : المعنى : أنه سبحانه ما جعل عليهم حرجا بتكليف ما يشقّ عليهم ، ولكن
__________________
(١). يس : ١٢.
(٢). التغابن : ١٦.
(٣). آل عمران : ١٠٢.