ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨))
قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ) هذا متّصل بقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) قال الأخفش : ليس ثمّ مثل ، وإنما المعنى ضربوا لي مثلا (فَاسْتَمِعُوا) قولهم ، يعني أن الكفار جعلوا لله مثلا بعبادتهم غيره ، فكأنه قال : جعلوا لي شبها في عبادتي فاستمعوا خبر هذا الشبه. وقال القتبي : إن المعنى : يا أيها الناس مثل من عبد آلهة لم تستطع أن تخلق ذبابا ، وإن سلبها شيئا لم تستطع أن تستنقذه منه. قال النّحّاس : المعنى ضرب الله عزوجل لما يعبدونه من دونه مثلا. قال : وهذا من أحسن ما قيل فيه ، أي : بيّن الله لكم شبها ولمعبودكم. وأصل المثل : جملة من الكلام متلقّاة بالرضا والقبول ، مسيرة في الناس ، مستغربة عندهم ، وجعلوا مضربها مثلا لموردها ، ثم قد يستعيرونها للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لكونها مماثلة لها في الغرابة كهذه القصة المذكورة ، في هذه الآية. والمراد بما يدعونه من دون الله : الأصنام التي كانت حول الكعبة وغيرها. وقيل : المراد بهم السادة الذين صرفوهم عن طاعة الله لكونهم أهل الحلّ والعقد فيهم. وقيل : الشياطين الذين حملوهم على معصية الله ، والأوّل أوفق بالمقام وأظهر في التمثيل ، والذباب : اسم للواحد يطلق على الذكر والأنثى ، وجمع القلة أذبّة ، والكثرة ذبّان ، مثل غراب وأغربة وغربان ، وقال الجوهري : الذباب معروف الواحد ذبابة. والمعنى : لن يقدروا على خلقه مع كونه صغير الجسم حقير الذات. وجملة (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) معطوفة على جملة أخرى شرطية محذوفة ، أي : لو لم يجتمعوا له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له ، والجواب محذوف ، والتقدير : لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال ، أي : لن يخلقوه على كلّ حال. ثم بيّن سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم ، فقال : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي. إذا أخذ منهم الذباب شيئا من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم ، والاستنقاذ والإنقاذ : التخليص ، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف ، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم ، فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرما وأشدّ منه قوّة أعجز وأضعف. ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب ، فقال : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه ، والمطلوب الذباب. وقيل : الطالب عابد الصنم ، والمطلوب الصنم. وقيل : الطالب الذباب والمطلوب الآلهة. ثم بيّن سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حقّ معرفته ، فقال : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظّموه حقّ تعظيمه ، ولا عرفوه حق معرفته ، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال ، وقد تقدّم في الأنعام (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) على خلق كلّ شيء (عَزِيزٌ) غالب لا يغالبه أحد ، بخلاف آلهة المشركين ، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا