خاصة إذا قتلوا أو ماتوا ، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف ، ومعنى (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ، وسمّي الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه ، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه ، ومعنى (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى ، قيل : المراد بهذا البغي : هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به ، واللام في (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) جواب قسم محذوف ، أي : لينصرن الله المبغيّ عليه على الباغي (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) أي : كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل : العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو ، وقيل : إن معنى (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) أي : ثم كان المجازي مبغيا عليه ، أي : مظلوما ، ومعنى «ثم» تفاوت الرتبة ؛ لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم ، كما قيل في أمثال العرب : البادي أظلم. وقيل : إن هذه الآية مدنية ، وهي في القصاص والجراحات ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) إلى ما تقدّم من نصر الله سبحانه للمبغيّ عليه ، وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج ، والباء للسببية ، أي : ذلك بسبب أنه سبحانه قادر ، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ، وعبّر عن الزيادة بالإيلاج ؛ لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر ، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر. وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) يسمع كلّ مسموع (بَصِيرٌ) يبصر كلّ مبصر ، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) إلى ما تقدم من اتّصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام ، أي : هو سبحانه ذو الحق ، دينه حقّ ، وعبادته حقّ ، ونصره لأوليائه على أعدائه حقّ ، ووعده حقّ ، فهو عزوجل في نفسه وأفعاله وصفاته حقّ (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة «تدعون» بالفوقية على الخطاب للمشركين ، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر ، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. والمعنى : إن الذين تدعونه آلهة ، وهي الأصنام ، هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها. (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) أي : العالي على كلّ شيء بقدرته المتقدّس على الأشباه والأنداد المتنزّه عمّا يقول الظالمون من الصفات (الْكَبِيرُ) أي : ذو الكبرياء ، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرّده بالإلهية ، ثم ذكر سبحانه دليلا بيّنا على كمال قدرته ، فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) الاستفهام للتقرير ، والفاء للعطف على «أنزل» ، وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه. قال الخليل : المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا ، كما قال الشاعر (٣) :
ألم تسأل الرّبع القواء فينطق |
|
وهل تخبرنّك اليوم بيداء سملق (٤) |
__________________
(١). الشورى : ٤٠.
(٢). البقرة : ١٩٤.
(٣). هو جميل بثينة.
(٤). «القواء» : القفر. «البيداء» : القفر أيضا. «السملق» : الأرض التي لا تنبت ، وهي السهلة المستوية.