معناه : قد سألته فنطق. قال الفراء : «ألم تر» خبر ؛ كما تقول في الكلام : إن الله ينزل من السماء ماء (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) أي : ذات خضرة ، كما تقول مبقلة ومسبعة ؛ أي : ذوات بقل وسباع ، وهو عبارة عن استعجالها إثر نزول الماء بالنبات واستمرارها كذلك عادة ، وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة الاخضرار مع الإشعار بتجدّد الإنزال واستمراره ، وهذا المعنى لا يحصل إلا بالمستقبل ، والرفع هنا متعيّن لأنه لو نصب لانعكس المعنى المقصود من الآية فينقلب إلى نفي الاخضرار ، والمقصود إثباته. قال ابن عطية : هذا لا يكون ، يعني الاخضرار في صباح ليلة المطر ، إلا بمكة وتهامة. والظاهر أن المراد بالاخضرار اخضرار الأرض في نفسها لا باعتبار النبات فيها ، كما في قوله : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) (١) والمراد بقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أنه يصل علمه إلى كلّ دقيق وجليل ، وقيل : «لطيف» بأرزاق عباده ، وقيل : (لَطِيفٌ) باستخراج النبات ، ومعنى (خَبِيرٌ) أنه ذو خبرة بتدبير عباده وما يصلح لهم ، وقيل : (خَبِيرٌ) بما ينطوون عليه من القنوط عند تأخير المطر ، وقيل : «خبير» بحاجتهم وفاقتهم. (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) خلقا وملكا وتصرّفا ، وكلهم محتاجون إلى رزقه (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُ) فلا يحتاج إلى شيء (الْحَمِيدُ) المستوجب للحمد في كلّ حال (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) هذه نعمة أخرى ذكرها الله سبحانه ، فأخبر عباده بأنه سخّر لهم ما يحتاجون إليه من الدواب والشجر والأنهار ، وجعله لمنافعهم (وَالْفُلْكَ) عطف على «ما» ، أو على اسم «أن» ، أي : وسخر لكم الفلك في حال جريها في البحر ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «والفلك» بالرفع على الابتداء ، وما بعده خبره ، وقرأ الباقون بالنصب. ومعنى (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) أي : بتقديره ، والجملة في محل نصب على الحال على قراءة الجمهور (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) أي : كراهة أن تقع ، وذلك بأنه خلقها على صفة مستلزمة للإمساك ، والجملة معطوفة على تجري (إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : بإرادته ومشيئته ، وذلك يوم القيامة (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الرأفة والرحمة حيث سخّر هذه الأمور لعباده ، وهيّأ لهم أسباب المعاش ، وأمسك السماء أن تقع على الأرض فتهلكهم تفضّلا منه على عباده وإنعاما عليهم. ثم ذكر سبحانه نعمة أخرى فقال : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) بعد أن كنتم جمادا (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عند انقضاء أعماركم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) عند البعث للحساب والعقاب و (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) أي : كثير الجحود لنعم الله عليه مع كونها ظاهرة غير مستترة ، ولا ينافي هذا خروج بعض الأفراد عن هذا الجحد ؛ لأن المراد وصف جميع الجنس بوصف من يوجد فيه ذلك من أفراده مبالغة.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن سلمان الفارسي سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «من مات مرابطا أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين ، واقرءوا إن شئتم (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) إلى قوله : (حَلِيمٌ)» ، وإسناد ابن أبي حاتم هكذا : حدّثنا المسيب ابن واضح ، حدّثنا ابن المبارك ، عن عبد الرحمن بن شريح ، عن عبد الكريم بن الحارث ، عن أبي عقبة ، يعني
__________________
(١). فصلت : ٣٩.