بالشرائع والأحكام إلا رحمة لجميع الناس ، والاستثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال والعلل ، أي : ما أرسلناك لعلة من العلل إلا لرحمتنا الواسعة ، فإن ما بعثت به سبب لسعادة الدارين. قيل : ومعنى كونه رحمة للكفار : أنهم أمنوا به من الخسف والمسخ والاستئصال. وقيل : المراد بالعالمين المؤمنون خاصة ، والأوّل أولى بدليل قوله سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١) ثم بيّن سبحانه أن أصل تلك الرحمة هو التوحيد والبراءة من الشرك ، فقال : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) إن كانت ما موصولة ، فالمعنى : إن الذي يوحى إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزها إلى ما يناقضها أو يضادّها ، وإن كانت «ما» كافة فالمعنى : إن الوحي إليّ مقصور على استئثار الله بالوحدة ، ووجه ذلك أن القصر أبدا يكون لما يلي إنما ، فإنما الأولى : لقصر الوصف على الشيء ، كقولك : إنما يقوم زيد ، أي : ما يقوم إلا زيد. والثانية : لقصر الشيء على الحكم ، كقولك : إنما زيد قائم ، أي : ليس به إلا صفة القيام. (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون مخلصون للعبادة ولتوحيد الله سبحانه (فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : أعرضوا عن الإسلام (فَقُلْ) لهم (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي : أعلمتكم أنا وإياكم حرب لا صلح بيننا كائنين على سواء في الإعلام لم أخصّ به بعضكم دون بعض ، كقوله سبحانه : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) (٢) أي : أعلمهم أنك نقضت العهد نقضا سوّيت بينهم فيه. وقال الزّجّاج : المعنى أعلمتكم ما يوحى إليّ على استواء في العلم به ، ولا أظهر لأحد شيئا كتمته على غيره. (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي : ما أدري ما توعدون به قريب حصوله أم بعيد ، وهو غلبة الإسلام وأهله على الكفر وأهله. وقيل : المراد بما توعدون القيامة ، وقيل : آذنتكم بالحرب ، ولكن لا أدري ما يؤذن لي في محاربتكم. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) أي : يعلم سبحانه ما تجاهرون به من الكفر والطعن على الإسلام وأهله وما تكتمونه من ذلك وتخفونه (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) أي : ما أدري لعلّ الإمهال فتنة لكم واختبار ليرى كيف صنيعكم (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) أي : وتمتيع إلى وقت مقدّر تقتضيه حكمته. ثم حكى سبحانه وتعالى دعاء نبيه صلىاللهعليهوسلم بقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : احكم بيني وبين هؤلاء المكذّبين بما هو الحق عندك ، ففوّض الأمر إليه سبحانه. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع وابن محيصن «ربّ» بضم الباء. قال النحاس : وهذا لحن عند النحويين لا يجوز عندهم : رجل أقبل ، حتى تقول : يا رجل. وقرأ الضحاك وطلحة ويعقوب «أحكم» بقطع الهمزة وفتح الكاف وضم الميم ، أي : قال محمد : ربي أحكم بالحقّ من كل حاكم. وقرأ الجحدري «أحكم» بصيغة الماضي ؛ أي : أحكم الأمور بالحق. وقرئ «قل» بصيغة الأمر ، أي : قل يا محمد. قال أبو عبيدة : الصفة هنا أقيمت مقام الموصوف ، والتقدير : ربّ احكم بحكمك الحق ، وربّ في موضع نصب ؛ لأنه منادى مضاف إلى الضمير ، وقد استجاب سبحانه دعاء نبيه صلىاللهعليهوسلم فعذّبهم ببدر ، ثم جعل العاقبة والغلبة والنصر لعباده المؤمنين والحمد لله ربّ العالمين. ثم قال سبحانه متمّما لتلك الحكاية (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) من الكفر والتكذيب ، فربنا مبتدأ وخبره الرحمن ، أي : هو كثير الرحمة
__________________
(١). الأنفال : ٣٣.
(٢). الأنفال : ٥٨.