بعض أجزائها ، وبه يتعلّق الطيّ حقيقة. وأما على القراءة الثانية فالكتاب مصدر ، واللام للتعليل ، أي : كما يطوى الطومار للكتابة ، أي : ليكتب فيه ، أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة ، وهذا على تقدير أن المراد بالطيّ المعنى الأوّل ، وهو ضدّ النشر. (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) أي : كما بدأناهم في بطون أمهاتهم ، وأخرجناهم إلى الأرض حفاة عراة غرلا ، كذلك نعيدهم يوم القيامة ، ف «أول خلق» مفعول «نعيد» مقدّرا يفسره نعيده المذكور ، أو مفعول ل «بدأنا» ، و «ما» كافة أو موصولة ، والكاف متعلقة بمحذوف ، أي : نعيد مثل الذي بدأناه نعيده ، وعلى هذا الوجه يكون أوّل ظرف لبدأنا ، أو حال ، وإنما خصّ أوّل الخلق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ، والمقصود بيان صحة الإعادة بالقياس على المبدأ لشمول الإمكان الذاتي لهما ؛ وقيل : معنى الآية : نهلك كلّ نفس كما كان أوّل مرة ، وعلى هذا فالكلام متّصل بقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) وقيل : المعنى نغيّر السماء ، ثم نعيدها مرة أخرى بعد طيها وزوالها ، والأوّل أولى ، وهو مثل قوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (١) ، ثم قال سبحانه : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) انتصاب «وعدا» على أنه مصدر ، أي : وعدنا وعدا علينا إنجازه والوفاء به. وهو البعث والإعادة ، ثم أكّد سبحانه ذلك بقوله : (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ). قال الزّجّاج : معنى إنا كنا فاعلين : إنا كنا قادرين على ما نشاء ؛ وقيل إنا كنا فاعلين ما وعدناكم ، ومثله قوله : (كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً) (٢) ـ (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) الزبر في الأصل الكتب ، يقال زبرت : أي كتبت ، وعلى هذا يصح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل ، وعلى كتاب داود المسمى بالزبور ، وقيل المراد به هنا كتاب داود ، ومعنى (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي اللوح المحفوظ ، وقيل هو التوراة : أي والله لقد كتبنا في كتاب داود من بعد ما كتبنا في التوراة أو من بعد ما كتبنا في اللوح المحفوظ (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ). قال الزجاج : الزبور جميع الكتب : التوراة والإنجيل والقرآن ، لأن الزبور والكتاب في معنى واحد ، يقال زبرت وكتبت ، ويؤيد ما قاله قراءة حمزة في الزبور بضم الزاي ، فإنه جمع زبر.
وقد اختلف في معنى (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فقيل : المراد أرض الجنة ، واستدل القائلون بهذا بقوله سبحانه : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) (٣) وقيل : هي الأرض المقدّسة ، وقيل : هي أرض الأمم الكافرة يرثها نبينا صلىاللهعليهوسلم وأمته بفتحها ، وقيل : المراد بذلك بنو إسرائيل ، بدليل قوله سبحانه : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها) (٤) والظاهر أن هذا تبشير لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم بوراثة أرض الكافرين ، وعليه أكثر المفسرين. وقرأ حمزة عبادي بتسكين الياء ، وقرأ الباقون بتحريكها. (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً) أي : فيما جرى ذكره في هذه السورة من الوعظ والتنبيه لبلاغا لكفاية ، يقال : في هذا الشيء بلاغ وبلغة وتبلغ ، أي : كفاية ، وقيل الإشارة بقوله : (إِنَّ فِي هذا) إلى القرآن (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : مشغولين بعبادة الله مهتمين بها ، والعبادة : هي الخضوع والتّذلّل ، وهم أمة محمد صلىاللهعليهوسلم ، ورأس العبادة الصلاة. (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي : وما أرسلناك يا محمد
__________________
(١). الأنعام : ٩٤.
(٢). المزمل : ١٨.
(٣). الزمر : ٧٤.
(٤). الأعراف : ١٣٧.