رشده قبل إيتاء موسى وهارون التوراة. وقال الفراء : المعنى أعطيناه هداه من قبل النبوّة : أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وبالأوّل قال أقلهم : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) أنه موضع لإيتاء الرشد ، وأنه يصلح لذلك ، والظرف في قوله : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) متعلّق بآتينا أو بمحذوف ، أي : اذكر حين قال ، وأبوه هو آزر (وَقَوْمِهِ) نمروذ ومن اتبعه ، والتماثيل : الأصنام ، وأصل التمثال الشيء المصنوع مشابها لشيء من مخلوقات الله سبحانه ، يقال : مثلت الشيء بالشيء ؛ إذا جعلته مشابها له ، واسم ذلك الممثّل تمثال ، أنكر عليهم عبادتها بقوله : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) والعكوف : عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء ، واللام في «لها» للاختصاص ، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على ، أي : ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وقيل : إن العكوف مضمّن معنى العبادة (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز ، والحبل الذي يتشبث به كل غريق ، وهو التمسك بمجرّد تقليد الآباء ، أي : وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشيا على طريقتهم ، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملّة الإسلامية ، وإن العالم بالكتاب والسنة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل قالوا هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين ، وجوابهم هو ما أجاب به الخليل هاهنا (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل ، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ، ولا تسمع ولا تبصر ، وليس بعد هذا الضلال ضلال ، ولا يساوي هذا الخسران خسران ، وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنّة رسوله كتابا قد دوّنت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها ، إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده ، وأبرزه واضح المنار :
كأنه علم في رأسه نار (١)
وقال : هذا كتاب الله أو هذه سنة رسوله ، وأنشدهم :
دعوا كلّ قول عند قول محمد |
|
فما آمن في دينه كمخاطر |
فقالوا كما قال الأوّل (٢) :
ما أنا إلّا من غزيّة إن غوت |
|
غويت وإن ترشد غزية أرشد |
وقد أحسن من قال :
يأبى الفتى إلا اتّباع الهوى |
|
ومنهج الحقّ له واضح |
__________________
(١). وصدره : وإنّ صخرا لتأتمّ الهداة به. «العلم» : الجبل. والبيت للخنساء.
(٢). هو دريد بن الصّمّة.