(لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) فإنهم إذا عرفوا ذلك وعلموا أنهم أخذوا الطعام بلا ثمن ، وأن ما دفعوه عوضا عنه قد رجع إليهم ، وتفضّل به من وصلوا إليه عليهم نشطوا إلى العود إليه ، ولا سيما مع ما هم فيه من الجدب الشديد والحاجة إلى الطعام وعدم وجوده لديهم ، فإن ذلك من أعظم ما يدعوهم إلى الرجوع ، وبهذا يظهر أن يوسف عليهالسلام لم يردّ البضاعة إليهم إلا لهذا المقصد ، وهو رجوعهم إليه فلا يتمّ تعليل ردّها بغير ذلك. والرّحال : جمع رحل ، والمراد به هنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث. قال الواحدي : الرّحل : كلّ شيء معدّ للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير ومجلس ورسن انتهى. والمراد هنا الأوعية التي يجعلون فيها ما يمتارونه من الطعام. قال ابن الأنباري : يقال للوعاء رحل ، وللبيت رحل (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ) أرادوا بهذا ما تقدّم من قول يوسف لهم : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي) أي : منع منا الكيل في المستقبل ، وفيه دلالة على أن الامتيار مرة بعد مرة معهود فيما بينهم وبينه ، ولعلهم قالوا له بهذه المقالة قبل أن يفتحوا متاعهم ويعلموا بردّ بضاعتهم ، كما يفيد ذلك قوله فيما بعد : (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) إلى آخره ، ثم ذكروا له ما أمرهم به يوسف ، فقالوا : (فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا) يعنون بنيامين و (نَكْتَلْ) جواب الأمر ، أي : نكتل بسبب إرساله معنا ما نريده من الطعام. قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر وعاصم «نكتل» بالنون. وقرأ سائر الكوفيين بالياء التحتية ، واختار أبو عبيد القراءة الأولى ، وقال : ليكونوا كلهم داخلين فيمن يكتال ، وزعم أنه إذا كان بالياء كان للأخ وحده ، أي : يكتال أخونا بنيامين ، واعترضه النحاس مما حاصله أن إسناد الكيل إلى الأخ لا ينافي كونه للجميع ، والمعنى : يكتال بنيامين لنا جميعا. قال الزجّاج : أي إن أرسلته اكتلنا وإلا منعنا الكيل (وَإِنَّا لَهُ) أي لأخيهم بنيامين (لَحافِظُونَ) من أن يصيبه سوء أو مكروه ، وجملة (قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ) مستأنفة جواب سؤال مقدّر كما تقدّم في نظائر ذلك في مواضع كثيرة ، والمعنى : أنه لا يأمنهم على بنيامين إلا كما أمنهم على أخيه يوسف ، وقد قالوا له في يوسف : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، كما قالوا هنا : (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) ثم خانوه في يوسف ، فهو إن أمنهم في بنيامين خاف أن يخونوه فيه كما خانوه في يوسف (فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لعل هنا إضمار ، والتقدير : فتوكل يعقوب على الله ودفعه إليهم ، وقال : فالله خير حافظا. وقرأ أهل المدينة «حفظا» وهو منتصب على التمييز ، وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وابن عامر. وقرأ سائر الكوفيين «حافظا» وهو منتصب على الحال. وقال الزّجّاج : على البيان يعني التمييز ؛ ومعنى الآية : أن حفظ الله إياه خير من حفظهم له ، لما وكل يعقوب حفظه إلى الله سبحانه حفظه وأرجعه إليه ، ولما قال في يوسف : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) (٢) وقع له من الامتحان ما وقع. (وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ) أي : أوعية الطعام ، أو ما هو أعمّ من ذلك مما يطلق عليه لفظ المتاع سواء كان الذي فيه طعاما أو غير طعام (وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ) أي : البضاعة التي حملوها إلى مصر ليمتاروا بها ، وقد تقدّم بيانها ، وجملة (قالُوا يا أَبانا) مستأنفة كما تقدّم (ما نَبْغِي) ما استفهامية ، والمعنى : أيّ شيء نطلب من هذا الملك بعد أن صنع معنا ما صنع من الإحسان
__________________
(١). يوسف : ١٢.
(٢). يوسف : ١٣.