أهل الشام ، جئنا نمتار ، ولنا أب شيخ صديق نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب. قال : كم أنتم؟ قالوا : عشرة ، وقد كنا اثني عشر ، فذهب أخ لنا إلى البرية فهلك ، وكان أحبنا إلى أبينا ، وقد سكن بعده إلى أخ له أصغر منه هو باق لديه يتسلى به ، فقال لهم حينئذ : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) يعني أخاه بنيامين الذي تقدّم ذكره ، وهو أخو يوسف لأبيه وأمه ، فوعدوه بذلك ، فطلب منهم أن يتركوا أحدهم رهينة عنده حتى يأتوه بالأخ الذي طلبه ، فاقترعوا فأصابت القرعة شمعون فخلّفوه عنده ، ثم قال لهم : (أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ) أي أتممه. وجاء بصيغة الاستقبال مع كونه قال لهم هذه المقالة بعد تجهيزهم للدلالة على أن ذلك عادته المستمرّة ، ثم أخبرهم بما يزيدهم وثوقا به وتصديقا لقوله ، فقال : (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) أي : والحال أني خير المنزلين لمن نزل بي كما فعلته بكم من حسن الضيافة وحسن الإنزال. قال الزجاج : قال يوسف : (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) لأنه حين أنزلهم أحسن ضيافتهم ، ثم توعّدهم إذا لم يأتوه به فقال : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ) أي فلا أبيعكم شيئا فيما بعد ، وأما في الحال فقد أوفاهم كيلهم ، ومعنى (لا تَقْرَبُونِ) : لا تدخلون بلادي فضلا عن أن أحسن إليكم. وقيل : معناه : لا أنزلكم عندي كما أنزلتكم هذه المرّة. ولم يرد أنهم لا يقربون بلاده ، وتقربون مجزوم إما على أن لا ناهية أو على أنها نافية ، وهو معطوف على محل الجزاء داخل في حكمه ، كأنّه قال : فإن لم تأتوني تحرموا ولا تقربوا ، فلما سمعوا منه ذلك وعدوه بما طلبه منهم ف (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) أي سنطلبه منه ، ونجتهد في ذلك بما نقدر عليه. وقيل : معنى المراودة هنا : المخادعة منهم لأبيهم والاحتيال عليه حتى ينتزعوه منه (وَإِنَّا لَفاعِلُونَ) هذه المراودة غير مقصرين فيها. وقيل : معناه : وإنا لقادرون على ذلك ، لا نتعانى به ولا نتعاظمه (وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم من رواية شعبة وابن عامر «لفتيته» ، واختار هذه القراءة أبو حاتم والنحاس وغيرهما ، وقرأ سائر الكوفيين «لفتيانه» ، واختار هذه القراءة أبو عبيد ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود كالقراءة الآخرة ، قال النحّاس : لفتيانه مخالف للسواد الأعظم ، ولا يترك السواد المجمع عليه لهذا الإسناد المنقطع ، وأيضا فإن فتية أشبه من فتيان ، لأن فتية عند العرب لأقل العدد ، وأمر القليل بأن يجعلوا البضاعة في الرحال أشبه ، والجملة مستأنفة جواب سؤال ، كأنه قيل : فما قال يوسف بعد وعدهم له بذلك؟ فأجيب بأنه قال لفتيته. قال الزّجّاج : الفتية والفتيان في هذا الموضع المماليك ، وقال الثعلبي : هما لغتان جيدتان مثل الصبيان والصبية. والمراد بالبضاعة هنا هي التي وصلوا بها من بلادهم ليشتروا بها الطعام ، وكانت نعالا وأدما ، فعل يوسف عليهالسلام ذلك تفضلا عليهم ؛ وقيل : فعل ذلك ليرجعوا إليه مرة أخرى لعلمه أنهم لا يقبلون الطعام إلا بثمن ، قاله الفراء ؛ وقيل فعل ذلك ليستعينوا بها على الرجوع إليه لشراء الطعام ؛ وقيل : إنه استقبح أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمن الطعام ، ثم علّل يوسف عليهالسلام ما أمر به من جعل البضاعة في رحالهم بقوله : (لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ) فجعل علّة جعل البضاعة في الرحال هي معرفتهم لها إذا انقلبوا إلى أهلهم ، وذلك لأنهم لا يعلمون بردّ البضاعة إليهم إلا عند تفريغ الأوعية التي جعلوا فيها الطعام ، وهم لا يفرغونها إلا عند الوصول إلى أهلهم ، ثم علّل معرفتهم للبضاعة المردودة إليهم المجعولة في رحالهم بقوله :