(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لما سمع فرعون ما احتجّ به موسى في ضمن هذا الكلام على إثبات الربوبية كما لا يخفى من أن الخلق والهداية ثابتان بلا خلاف ، ولا بدّ لهما من خالق وهاد ، وذلك الخالق والهادي هو الله سبحانه لا ربّ غيره. قال فرعون : فما بال القرون الأولى؟ فإنها لم تقرّ بالربّ الذي تدعو إليه يا موسى ، بل عبدت الأوثان ونحوها من المخلوقات ، ومعنى البال : الحال والشأن ، أي : ما حالهم؟ وما شأنهم؟ وقيل : إن سؤال فرعون عن القرون الأولى مغالطة لموسى لما خاف أن يظهر لقومه أنه قد قهره بالحجة ، أي : ما حال القرون الماضية؟ وماذا جرى عليهم من الحوادث؟ فأجابه موسى ، ف (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي : إن هذا الذي سألت عنه ليس ممّا نحن بصدده ، بل هو من علم الغيب الذي استأثر الله به لا تعلمه أنت ولا أنا. وعلى التفسير الأوّل يكون معنى (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أنّ علم هؤلاء الذين عبدوا الأوثان ونحوها محفوظ عند الله في كتابه سيجازيهم عليها ، ومعنى كونها في كتاب أنها مثبتة في اللوح المحفوظ. قال الزجاج : المعنى أن أعمالهم محفوظة عند الله يجازي بها ، والتقدير : علم أعمالها عند ربّي في كتاب.
وقد اختلف في معنى (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) على أقوال : الأوّل : أنه ابتداء كلام تنزيه لله تعالى عن هاتين الصفتين. وقد تمّ الكلام عند قوله (فِي كِتابٍ) ، كذا قال الزجاج. قال : ومعنى (لا يَضِلُ) لا يهلك ، من قوله : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (١) ، (وَلا يَنْسى) شيئا من الأشياء ، فقد نزّهه عن الهلاك والنسيان. القول الثاني : أن معنى (لا يَضِلُ) لا يخطئ. القول الثالث : أن معناه لا يغيب. قال ابن الأعرابي : أصل الضلال الغيبوبة. القول الرابع : أن المعنى لا يحتاج إلى كتاب ، ولا يضلّ عنه علم شيء من الأشياء ، ولا ينسى ما علمه منها ، حكي هذا عن الزجاج أيضا. قال النحاس : وهو أشبهها بالمعنى. ولا يخفى أنه كقول ابن الأعرابي. القول الخامس : أن هاتين الجملتين صفة لكتاب ، والمعنى : أن الكتاب غير ذاهب عن الله ولا هو ناس له (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) الموصول في محل رفع على أنه صفة لربي متضمّنة لزيادة البيان ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف ، أو في محل نصب على المدح. قرأ الكوفيون (مَهْداً) على أنه مصدر لفعل مقدّر ، أي : مهدها مهدا ، أو على تقدير مضاف محذوف ، أي : ذات مهد ، وهو اسم لما يمهد كالفراش لما يفرش. وقرأ الباقون مهادا واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم قالا : لاتفاقهم على قراءة : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً). قال النحاس : والجمع أولى من المصدر ؛ لأن هذا الموضوع ليس موضع المصدر إلا على حذف المضاف. قيل : يجوز أن يكون مهادا مفردا كالفراش ، ويجوز أن يكون جمعا ، ومعنى المهاد : الفراش ، فالمهاد : جمع المهد ، أي : جعل كل موضع منها مهدا لكل واحد منكم (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) السلك : إدخال الشيء في الشيء. والمعنى : أدخل في الأرض لأجلكم طرقا تسلكونها وسهّلها لكم. وفي الآية الأخرى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ). ثم قال سبحانه ممتنّا على عباده (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) هو ماء المطر ، قيل : إلى هنا انتهى كلام موسى ، وما بعده هو (فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) من كلام الله سبحانه ، وقيل : هو من الكلام المحكيّ عن موسى ، معطوف على أنزل ، وإنما التفت إلى التكلّم للتنبيه على ظهور ما فيه من
__________________
(١). السجدة : ١٠.