الدلالة على كمال القدرة. ونوقش بأن هذا خلاف الظاهر مع استلزامه فوت الالتفات لعدم اتحاد المتكلّم ، ويجاب عنه بأن الكلام كله محكيّ عن واحد هو موسى ، والحاكي للجميع هو الله سبحانه. والمعنى : فأخرجنا بذلك الماء بسبب الحرث والمعالجة أزواجا ، أي : ضروبا وأشباها من أصناف النبات المختلفة. وقوله : «من نبات» صفة لأزواجا ، أو بيان له ، وكذا «شتى» صفة أخرى له ، أي : متفرّقة ، جمع شتيت. وقال الأخفش : التقدير أزواجا شتى من نبات. قال : وقد يكون النبات شتى ، فيجوز أن يكون «شتى» نعتا لأزوجا ، ويجوز أن يكون نعتا للنبات ، يقال : أمر شتّ ، أي : متفرّق ، وشتّ الأمر شتّا وشتاتا تفرّق ، واشتتّ مثله ، والشّتيت : المتفرّق. قال رؤبة :
جاءت معا واطّرقت شتيتا (١)
وجملة (كُلُوا وَارْعَوْا) في محل نصب على الحال بتقدير القول ، أي : قائلين لهم ذلك ، والأمر للإباحة ، يقال : رعت الماشية الكلأ ورعاها صاحبها رعاية ، أي : أسامها وسرّحها ، يجيء لازما ومتعدّيا ، والإشارة بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) إلى ما تقدّم ذكره في هذه الآيات ، والنهى : العقول ، جمع نهية ، وخصّ ذوي النّهى لأنهم الذين ينتهى إلى رأيهم ، وقيل : لأنهم ينهون النفس عن القبائح ، وهذا كلّه من موسى احتجاج على فرعون في إثبات الصانع جوابا لقوله : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى). والضمير في (مِنْها خَلَقْناكُمْ) وما بعده راجع إلى الأرض المذكورة سابقا. قال الزّجّاج وغيره : يعني أن آدم خلق من الأرض وأولاده منه. وقيل : المعنى : أن كل نطفة مخلوقة من التراب في ضمن خلق آدم ؛ لأنّ كلّ فرد من أفراد البشر له حظّ من خلقه (وَفِيها) أي : في الأرض (نُعِيدُكُمْ) بعد الموت فتدفنون فيها وتتفرّق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ، وجاء بفي دون إلى للدلالة على الاستقرار (وَمِنْها) أي : من الأرض (نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي : بالبعث والنشور وتأليف الأجسام وردّ الأرواح إليها على ما كانت عليه قبل الموت ، والتارة كالمرّة (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) أي : أرينا فرعون وعرّفناه آياتنا كلها ، والمراد بالآيات هي الآيات التسع المذكورة في قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ) على أن الإضافة للعهد. وقيل : المراد جميع الآيات التي جاء بها موسى ، والتي جاء بها غيره من الأنبياء ، وأن موسى قد كان عرّفه جميع معجزاته ومعجزات سائر الأنبياء ، والأوّل أولى. وقيل : المراد بالآيات حجج الله سبحانه الدالة على توحيده (فَكَذَّبَ وَأَبى) أي : كذب فرعون موسى ، وأبى عليه أن يجيبه إلى الإيمان ، وهذا يدلّ على أن كفر فرعون كفر عناد ؛ لأنه رأى الآيات وكذب بها ، كما في قوله : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا). وجملة (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال فرعون بعد هذا؟ والهمزة للإنكار لما جاء به موسى من الآيات ، أي : جئت يا موسى لتوهم الناس بأنك نبيّ يجب
__________________
(١). وتمامه : وهي تثير السّاطع السّخّيتا.
«السخيت» : دقاق التراب.