محل رفع ، والهدى القرآن ومحمد صلىاللهعليهوسلم ، والناس ـ هنا ـ هم أهل مكة ، والمعنى على حذف مضاف ، أي : ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب إتيان سنة الأوّلين ، أو انتظار إتيان سنة الأوّلين ، وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل ، وسنة الأوّلين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال الزجّاج : سنّتهم هو قولهم : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (١) الآية : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ) أي : عذاب الآخرة (قُبُلاً) قال الفراء : إن قبلا جمع قبيل ؛ أي : متفرّقا يتلو بعضه بعضا ، وقيل : عيانا ، وقيل : فجأة. ويناسب ما قاله الفرّاء قراءة أبي جعفر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي ويحيى بن وثّاب وخلف (قُبُلاً) بضمتين ، فإنه جمع قبيل ، نحو سبيل وسبل ، والمراد أصناف العذاب ؛ ويناسب التفسير الثاني ؛ أي عيانا ، قراءة الباقين بكسر القاف وفتح الباء : أي : مقابلة ومعاينة ، وقرئ بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلا ، وانتصابه على الحال. فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم ، أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ) من رسلنا إلى الأمم (إِلَّا) حال كونهم (مُبَشِّرِينَ) للمؤمنين (وَمُنْذِرِينَ) للكافرين ، فالاستثناء مفرّغ من أعمّ العام ، وقد تقدّم تفسير هذا (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) أي : ليزيلوا بالجدال بالباطل الحق ويبطلوه. وأصل الدحض الزّلق ؛ يقال دحضت رجله : أي : زلقت تدحض دحضا ، ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت ، ودحضت حجّته دحوضا : بطلت ، ومن ذلك قول طرفة :
أبا منذر رمت الوفاء فهبته |
|
وحدت كما حاد البعير عن الدّحض |
ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) (٢) ، ونحو ذلك : (وَاتَّخَذُوا آياتِي) أي : القرآن (وَما أُنْذِرُوا) به من الوعيد والتهديد (هُزُواً) أي : لعبا وباطلا ، وقد تقدّم هذا في البقرة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) أي : لا أحد أظلم لنفسه ممّن وعظ بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما ، فتهاون بها وأعرض عن قبولها ، ولم يتدبّرها حقّ التدبر ، ويتفكّر فيها حقّ التفكّر (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من الكفر والمعاصي ، فلم يتب عنها. قيل : والنسيان هنا بمعنى الترك ، وقيل : هو على حقيقته (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ) أي : أغطية. والأكنة : جمع كنان ، والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج : أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم (وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) أي : وجعلنا في آذانهم ثقلا يمنع من استماعه ، وقد تقدّم تفسير هذا في الأنعام (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) لأنّ الله قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ) أي : كثير المغفرة ، وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة ، ولهذا قال : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا) أي : بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض
__________________
(١). الأنفال : ٣٢.
(٢). يس : ١٥.