غادرته متعفّرا أوصاله |
|
والقوم بين مجرّح ومجندل (١) |
أي : تركته ، ومنه الغدر ؛ لأن الغادر ترك الوفاء للمغدور ، قالوا : وإنّما سمّي الغدير غديرا ؛ لأن الماء ذهب وتركه ، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) انتصاب صفا على الحال ، أي : مصفوفين كل أمة وزمرة صفا ؛ وقيل : عرضوا صفا واحدا ، كما في قوله : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) (٢) أي : جميعا ؛ وقيل : قياما. وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هو على إضمار القول ، أي : قلنا لهم لقد جئتمونا ، والكاف في كما خلقناكم نعت مصدر محذوف ، أي : مجيئا كائنا كمجيئكم عند ما خلقناكم أوّل مرّة ، أو كائنين كما خلقناكم أوّل مرّة ، أي : حفاة عراة غرلا ، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجّاج : أي : بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم ؛ لأن قوله لقد جئتمونا معناه بعثناكم (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) هذا إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ ، وهو خطاب لمنكري البعث ، أي : زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا ، وأن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم ، وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب ، وجملة (وَوُضِعَ الْكِتابُ) معطوفة على عرضوا ، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال ، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس ، والوضع إما حسّي بأن توضع صحيفة كل واحد في يده : السعيد في يمينه ، والشقيّ في شماله ؛ أو في الميزان. وإما عقلي : أي : أظهر عمل كل واحد من خير وشرّ بالحساب الكائن في ذلك اليوم (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) أي : خائفين وجلين ممّا في الكتاب الموضوع لما يتعقّب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع ، والمجازاة بالعذاب الأليم (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك ، ومعنى هذا النداء قد تقدّم تحقيقه في المائدة (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها) أي : أيّ شيء له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها وضبطها وأثبتها (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة ، أو وجدوا جزاء ما عملوا (حاضِراً) مكتوبا مثبتا (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) أي : لا يعاقب أحدا من عباده بغير ذنب ، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقّه ، ثم إنه سبحانه عاد إلى الردّ على أرباب الخيلاء من قريش ، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه ، فقال : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) أي : واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم ، كما مرّ تحقيقه (فَسَجَدُوا) طاعة لأمر الله وامتثالا لطلبه السجود (إِلَّا إِبْلِيسَ) فإنه أبى واستكبر ولم يسجد ، وجملة (كانَ مِنَ الْجِنِ) مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجنّ ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى ، ومعنى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) أنه خرج عن طاعة ربه. قال الفراء : العرب تقول فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. قال النحّاس : اختلف في معنى (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) على قولين : الأوّل مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى : أتاه الفسق لما أمر فعصى ، فكان سبب
__________________
(١). في الديوان : مجدّل.
«المتعفر» : اللاصق بالعفر ؛ وهو التراب.
(٢). طه : ٦٤.