له حجّة على المؤمنين في إغوائهم ودعائهم إلى الضلالة ؛ ومعنى (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يفوضون أمورهم إليه في كل قول وفعل ، فإن الإيمان بالله والتوكل عليه يمنعان الشيطان من وسوسته لهم ، وإن وسوس لأحد منهم لا تؤثر فيه وسوسته وهذه الجملة تعليل للأمر بالاستعاذة ، وهؤلاء الجامعون بين الإيمان والتوكل هم الذين قال فيهم إبليس : (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، وقال الله فيهم : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١) ، ثم حصر سبحانه سلطان الشيطان ، فقال : (إِنَّما سُلْطانُهُ) أي : تسلطه على الإغواء (عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) أي : يتخذونه وليا ويطيعونه في وساوسه (وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) الضمير في به يرجع إلى الله تعالى ، أي : الذين هم بالله مشركون ، وقيل : يرجع إلى الشيطان ؛ والمعنى : والذين هم من أجله وبسبب وسوسته مشركون بالله (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ) هذا شروع منه سبحانه في حكاية شبه كفرية ودفعها ، ومعنى التبديل : رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية رفعها بأخرى غيرها ، وهو نسخها بآية سواها. وقد تقدّم الكلام في النسخ في البقرة (قالُوا) أي : كفار قريش الجاهلون للحكمة في النسخ (إِنَّما أَنْتَ) يا محمد (مُفْتَرٍ) أي : كاذب مختلق على الله متقوّل عليه بما لم يقل ، حيث تزعم أنه أمرك بشيء ، ثم تزعم أنه أمرك بخلافه ، فردّ الله سبحانه عليهم بما يفيد جهلهم فقال : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) شيئا من العلم أصلا ، أو لا يعلمون بالحكمة في النسخ ، فإنه مبنيّ على المصالح التي يعلمها الله سبحانه ، فقد يكون في شرع هذا الشيء مصلحة مؤقتة بوقت ، ثم تكون المصلحة بعد ذلك الوقت في شرع غيره ، ولو انكشف الغطاء لهؤلاء الكفرة لعرفوا أنّ ذلك وجه الصواب ومنهج العدل والرفق واللطف. ثم بيّن سبحانه لهؤلاء المعترضين على حكمة النسخ الزاعمين أن ذلك لم يكن من عند الله ، وأن رسوله صلىاللهعليهوسلم افتراه فقال : (قُلْ نَزَّلَهُ) أي : القرآن المدلول عليه بذكر الآية (رُوحُ الْقُدُسِ) أي جبريل ، والقدس التطهير ؛ والمعنى : نزله الروح المطهر من أدناس البشرية ، فهو من إضافة الموصوف إلى الصفة (مِنْ رَبِّكَ) أي : ابتداء تنزيله من عنده سبحانه ، و (بِالْحَقِ) في محل نصب على الحال : أي متلبسا بكونه حقا ثابتا لحكمة بالغة (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الإيمان ، فيقولون : كلّ من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا ، ولأنهم أيضا إذا عرفوا ما في النسخ من المصالح ثبتت أقدامهم على الإيمان ورسخت عقائدهم. وقرئ (لِيُثَبِّتَ) من الإثبات (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) وهما معطوفان على محل ليثبت ، أي : تثبيتا لهم وهداية وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم. ثم ذكر سبحانه شبهة أخرى من شبههم فقال : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) اللام هي الموطئة ، أي : ولقد نعلم أن هؤلاء الكفار يقولون إنما يعلم محمدا القرآن بشر من بني آدم غير ملك. وقد اختلف أهل العلم في تعيين هذا البشر الذي زعموا عليه ما زعموا ، فقيل هو غلام الفاكه بن المغيرة ، واسمه جبر ، وكان نصرانيا فأسلم ، وكان كفار قريش إذا سمعوا من النبي صلىاللهعليهوسلم أخبار القرون الأولى مع كونه أميا ، قالوا : إنما يعلمه جبر. وقيل : اسمه يعيش ، عبد لبني الحضرميّ ، وكان يقرأ الكتب الأعجمية. وقيل : غلام لبني عامر بن لؤيّ. وقيل : هما غلامان ؛ اسم أحدهما
__________________
(١). الحجر : ٤٢.