التأكيد والمبالغة في تقرير الوعد ؛ وقيل : إن لفظ «من» ظاهر في الذكور ، فكان في التنصيص على الذكر والأنثى بيان لشموله للنوعين وجملة (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) في محل نصب على الحال ، جعل سبحانه الإيمان قيدا في الجزاء المذكور لأن عمل الكافر لا اعتداد به لقوله سبحانه : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (١) ، ثم ذكر سبحانه الجزاء لمن عمل ذلك العمل الصالح فقال : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) وقد وقع الخلاف في الحياة الطيبة بما ذا تكون؟ فقيل : بالرزق الحلال ، روي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والضحّاك. وقيل : بالقناعة ، قاله الحسن البصري وزيد بن وهب ووهب بن منبه. وروي أيضا عن عليّ وابن عباس. وقيل : بالتوفيق إلى الطاعة قاله الضحّاك. وقيل : الحياة الطيبة هي حياة الجنة ، روي عن مجاهد وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وحكي عن الحسن أنه قال : لا تطيب الحياة لأحد إلا في الجنة ، وقيل : الحياة الطيبة هي السعادة ، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل : هي المعرفة بالله ، حكي ذلك عن جعفر الصادق. وقال أبو بكر الورّاق : هي حلاوة الطاعة. وقال سهل بن عبد الله التستري : هي أن ينزع عن العبد تدبير نفسه ويردّ تدبيره إلى الحق. وقيل : هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق ، وأكثر المفسرين على أن هذه الحياة الطيبة هي في الدنيا لا في الآخرة ، لأن حياة الآخرة قد ذكرت بقوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقد قدّمنا قريبا تفسير الجزاء بالأحسن ، ووحّد الضمير في لنحيينه ، وجمعه في ولنجزينهم حملا على لفظ من ، وعلى معناه. ثم لما ذكر سبحانه العمل الصالح والجزاء عليه أتبعه بذكر الاستعاذة التي تخلص بها الأعمال الصالحة عن الوساوس الشيطانية فقال : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) والفاء لترتيب الاستعاذة على العمل الصالح ، وقيل : هذه الآية متصلة بقوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) ، والتقدير : فإذا أخذت في قراءته فاستعذ. قال الزجاج وغيره من أئمة اللغة : معناه إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ ، وليس معناه استعذ بعد أن تقرأ القرآن ، ومثله : إذا أكلت فقل بسم الله. قال الواحدي : وهذا إجماع الفقهاء أن الاستعاذة قبل القراءة ، إلا ما روي عن أبي هريرة وابن سيرين وداود ومالك وحمزة من القراء فإنهم قالوا : الاستعاذة بعد القراءة ، ذهبوا إلى ظاهر الآية ؛ ومعنى فاستعذ بالله : اسأله سبحانه أن يعيذك من الشيطان الرجيم ، أي : من وساوسه ، وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لسائر الأعمال الصالحة عند إرادتها أهمّ ، لأنه إذا وقع الأمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه كانت عند إرادة غيره أولى ، كذا قيل. وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم للإشعار بأن غيره أولى منه بفعل الاستعاذة ؛ لأنه إذا أمر بها لدفع وساوس الشيطان مع عصمته ، فكيف بسائر أمته؟ وقد ذهب الجمهور إلى أن الأمر في الآية للندب. وروي عن عطاء الوجوب أخذا بظاهر الأمر. وقد تقدّم الكلام في الاستعاذة مستوفى في أوّل هذا التفسير ، والضمير في (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ) للشأن أو للشيطان ، أي : ليس له تسلط (عَلَى) إغواء (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وحكى الواحدي عن جميع المفسرين أنهم فسروا السلطان بالحجة. وقالوا : المعنى ليس
__________________
(١). الفرقان : ٢٣.
(٢). النحل : ٨٩.