تعالى ثمة : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير : ١٩ ـ ٢٣] ، فترى هذه الآيات مشابهة للآيات هنا ، وإن كان فيما هنا زيادة رؤية ، وبيان دنوّ واقتراب لم يذكر في (التكوير). وسر الزيادة هو ارتقاء النبيّ صلىاللهعليهوسلم في معارج الكمالات وقتا فوقتا. وسورة النجم مما نزل بعد التكوير ، كما حكاه في (الإتقان) عن ابن عباس وغير واحد من السلف ، فلذلك كان في (النجم) زيادة هذا التكريم والتفضيل. وحاصل المعنى : أن ما ينطق به من هذا القرآن ليس عن هواه ، وإنما هو وحي علمه إياه ملك كريم ، جمّ المناقب ، لأنه شديد القوى ، ذو مرة ، رفيع المكانة بالأفق الأعلى. ثم لما شاء تعالى إنزال وحيه على نبيّه تنزل من الأفق ، ودنا إليه ، وكان في غاية القرب منه ، والتمكن من رؤيته ، وتلقي الوحي عنه ، وذلك كله حق وصدق لا مرية فيه. وكيف يماري من يرى ببصره ما يصدقه فؤاده فيه ولا يكذبه ، لا سيما ولم تكن رؤياه له مرة واحدة ، بل رآه نزلة ثانية ، نزل إليه بالوحي في مكان معين لا يشتبه على رائيه ، وهو سدرة المنتهى. وبالجملة ، فتوافق هذه الآيات لآيات (التكوير) وتفسير بعضها بعضا ، أمر لا خفاء به عند المتدبر ، وكله رد على المشركين المفترين ، وإقسام على حقيقة الوحي والتنزيل ، وصدق ما يخبر به ، لا سيما وهو صادق عندهم لا يكذبونه. فما بقي بعد التعنت والجحد إلا انتظار سنة الله في أمثالهم من الأمم الكافرة الجاحدة ، كما أشار له في آخر السورة.
هذا ملخص معنى الآيات ، وما عداه فتوسع وحمل اللفظ على ما تجوّزه مادته. وكل ما يتسع له اللفظ هو المراد ـ والله الموفق ـ.
الثاني ـ ما قدمناه من رجوع الضمائر في قوله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى ...) إلخ إلى جبريل عليهالسلام ، هو الذي عوّل عليه عامة المفسرين ، وقد أيدناه بما رأيت.
قال الإمام ابن تيمية : الدنوّ والتدلّي في سورة النجم هو دنوّ جبريل وتدلّيه ـ كما قالت عائشة وابن مسعود ـ والسياق يدل عليه ، فإنه قال (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) وهو جبريل ، (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى. ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى ، وهو ذو المرة أي القوة ، وهو الذي استوى بالأفق الأعلى ، وهو الذي دنا فتدلّى ، فكان من محمد صلىاللهعليهوسلم قدر قوسين