وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها ، لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية ، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء أنه الذي يلزمه اللازم الفلانيّ ، فهذا المذكور ، إما أن يكون معرّفا لمجرد كونه أمرا ما يلزمه ذلك اللازم. أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزوميّة والأول محال. لأن كونه أمرا يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفا. فلو كان المشكوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معرفا لنفسه ، وهو محال. والثاني محال ، لأن العلم بأنه أمر ما ، يلزمه اللازم الفلانيّ ، لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة ، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية. فثبت أن التعريف بالوصف الخارجيّ ، لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه ربّا للسموات والأرض وما بينهما جوابا عن قوله (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فأجاب موسى عليهالسلام بأن قال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض ، إلى التعريف بكونه تعالى خالقا لنا ولآبائنا. وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين ، واجبة لذواتها ، فهي غنية عن الخالق والمؤثر. ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده ، كونهم واجبين لذواتهم. لما أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ، ثم عدموا بعد الوجود ، وما كان كذلك استحال أن يكون واجبا لذاته. وما لم يكن واجبا لذاته ، استحال وجوده إلا لمؤثر. فكان التعريف بهذا الأثر أظهر ، فلهذا عدل موسى عليهالسلام من الكلام الأول ، إليه. فقال فرعون (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يعني المقصود من سؤال (ما) طلب الماهية ، وخصوصية الحقيقة. والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد البتة تلك الخصوصية ، فهذا الذي يدعى الرسالة مجنون ، لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه.
فقال موسى عليهالسلام (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني ، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار ، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار ، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب ، لا يتم إلا بتدبير مدبر ، وأما قوله (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) فكأنه عليهالسلام قال : إن كنت من العقلاء ، عرفت أنه لا جواب عن سؤالك ، إلا ما ذكرت ، لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته ، وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته. فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته. وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته ، فقد ثبت أن كل من كان عاقلا ، يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.
ثم قال الرازيّ : وقد بينا في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ