بمعزل عن أن يعجبوا لكون الجواب كان بالرسم لا بالحد ، إذ هو اصطلاح لفئة خاصة ، ومع هذا فالنظم يحتمله ولا يأباه. وقد عول عليه كثير من أهل النظر ، ولا بأس بأن نأثر شيئا من لطائفهم فيه.
قال الرازيّ : السؤال ب (ما) طلب لتعريف حقيقة الشيء. وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة ، أو بشيء من أجزائها ، أو بأمر خارج عنها ، أو بما يتركب من الداخل والخارج. أما تعريفها بنفسها فمحال ؛ لأن المعرف معلوم قبل المعرف. فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوما قبل أن يكون معلوما ، وهو محال. وأما تعريفها بالأمور الداخلية فيها ، فهاهنا في حق واجب الوجود محال ، لأن التعريف بالأمور الداخلة ، لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركبا ، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركبا ؛ لأن كل مركب ، فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه. وكل واحد من أجزائه فهو غيره ؛ فكل مركب محتاج إلى غيره. وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته. وكل مركب فهو ممكن ، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركبا. فواجب الوجود ليس بمركب ، وإذا لم يكن مركبا استحال تعريفه بأجزائه. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود ، إلا بلوازمه وآثاره.
ثم إن اللوازم قد تكون خفية ، وقد تكون جلية. ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية ، بل لا بد من تعريفها باللوازم الجلية. وأظهر آثار ذات واجب الوجود ، وهو هذا العالم المحسوس ، وهو السموات والأرض وما بينهما.
فقد ثبت أنه لا جواب البتة لقول فرعون (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) إلا ما قاله موسى عليهالسلام ، وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما. فأما قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ). فمعناه إن كنتم موقنين باستناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود ، فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته. لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته ، وثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق ، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره. وثبت أن تلك الآثار لا بد وأن تكون أظهر آثاره وأبعدها عن الخفاء ، وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما. فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال ، إلا هذا الجواب.
ولما ذكر موسى عليهالسلام هذا الجواب الحق ، قال فرعون لمن حوله (أَلا تَسْتَمِعُونَ) وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى ، يعني أنا أطلب منه الماهية ، وخصوصية الحقيقة ، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية.