كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة ، لتشرف على حضرة القدس المنيفة ، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية ، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه ، بجمع المال ورفاهة الحال ، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه ، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة ، ليهتدي إلى وضح المحجة. فإن تبصر في أمره ، واكتنه حقيقة سره ، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها ، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها ، وإمتاعها بطلبتها ، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه ، ومنحة من أفضل منح الله عليه ، لو استعمل فيما وضع له ، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم ، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده ، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه ، فيستدل بها على وجود الخالق عزوجل ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث ، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته ، استدلالا محسوسا لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. فيرى نواميس رقيّها وهبوطها ، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتبصر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاءوا به ، وفي الآثار التي تركوها ، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات ، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعا لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائه ، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها ، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه.
الرابعة ـ رأيت للإمام ابن القيّم ، رحمهالله ، كلاما على هذه الآية في كتابيه : (الجواب الكافي) و (مفتاح دار السعادة) فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية ، فإنها جديرة بذلك. قال في (الجواب الكافي) في فصل أبان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي : ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال : وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه ، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات ، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن