هذا «التمكين» في الأرض إمّا أن يكون
لمجيىء يوسف إلى مصر ، وخاصه أن خطواته في محيط مصر مقدمة لما سيكون عليه من
الإقتدار والمكانة القصوى ، وإمّا أنّه لا قياس ، بين هذه الحياة في مصر «العزيز».
ويضيف القرآن أيضاً : (وَلِنُعَلّمَهُ مِن تَأْوِيلِ
الْأَحَادِيثِ).
والمراد من «تأويل الأحاديث» ـ كما
أشرنا سابقاً ـ هو علم تفسير الأحلام وتعبير الرؤيا حيث كان يوسف قادراً على أن
يطلع على بعض أسرار المستقبل من خلاله.
ثم يختتم القرآن هذه الآية بالقول : (وَالله غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
لقد واجه يوسف في هذا المحيط الجديد ،
الذي يعدّ واحداً من المراكز السياسية المهمة في مصر مسائل مستحدثة ... فمن جهة
كان يرى قصور الطغاة المدهشة وثرواتهم ومن جهة اخرى كانت تتجسد في ذهنه صورة أسواق
النخاسين وبيع المماليك والعبيد ومن خلال الموازنة بين هاتين الصورتين كان يفكر في
كيفية القضاء على هموم المستضعفين من الناس لو أصبح مقتدراً على ذلك.
فاشتغل بتهذيب نفسه وبنائها ، يقول
القرآن الكريم في هذا الصدد : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ).
«أشدّ» : من مادة «شدّ» وهي هنا إشارة
إلى الإستحكام الجسماني والروحاني.
والمراد من «الحكم» و «العلم» الواردين
في الآية المتقدمة التي تقول : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُءَاتَيْنهُ حُكْمًا وَعِلْمًا)
إمّا أن يكون مقام النبوة ، وإمّا أن يكون المراد من الحكم العقل والفهم والقدرة
على القضاء الصحيح الخالي من اتباع الهوى والإشتباه ، والمراد من العلم الإطلاع
الذي لا يقترن معه الجهل ، ومهما كان فإنّ الحكم والعلم موهبتان نادرتان وهبهما
الله ليوسف لتقواه وصبره وتوكله عليه.
فإنّه ليس مستبعداً أن يهب الله سبحانه
لعباده المخلصين المنتصرين في ميادين «جهاد النفس للهوى والشهوات» مواهب من
المعارف والعلوم التي لا تقاس بأيّ معيار مادي.
(وَرَاوَدَتْهُ
الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ
هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللهِ إِنَّهُ
رَبِّي
أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ
(٢٣) وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْ لَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ
كَذلِكَ
لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ)
(٢٤)