(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) تمثيل لحال من عمل صالحا إنفاقا كان أو غيره متقرّبا به إلى الله مبتغيا رضاه ، كما في هذا القسم من الإنفاق ، ثم ظهرت نفسه فيه ، وتحرّكت ، فكانت حركاتها المتخالفة بحركة الروح ودواعيها المتفاوتة المضادّة لداعية القلب إعصارا ، فافترض الشيطان حركتها واتخذها مجالا له بالوسوسة ، فنفث فيها رؤية عملها أو رياء فكان ذلك النفث نارا أحرقت عملها أحوج ما يكون إليه ، كما قال أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام : «اللهم اغفر لي ما تقرّبت به إليك ثم خالفه قلبي».
(أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) أمر بالقسم الثالث من الإنفاق من طيبات ما كسبتم ، إذ المختار بالله يختار الأشرف من كل شيء للمناسبة كما قال أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام : «إن الله جميل يحبّ الجمال» ومن كان في إنفاقه بالنفس لا يقدر على إنفاق الأشرف لضنّ النفس ومحبتها إياه ، واستئثارها به عن تخصيصه بالله ، فما كان بالنفس ليس ببر أصلا لقوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (١) ، (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) تخصونه بالإنفاق كعادة المنفقين بالنفس والطبيعة (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) لمحبتكم الأطيب من المال لأنفسكم لاختصاص محبتكم بالذات إياها ، ولهذا لا تؤثرون الله بالمال عليها فتنفقوا أطيبه له (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) فاتصفوا بغناه فتستفيضوا به عن المال ومحبته (حَمِيدٌ) لا يفعل إلا الفعل المحمود ، فاقتدوا به.
[٢٦٨] (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))
(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) أي : الخصلة القبيحة التي هي البخل ، فتعوّذوا منه بالله ، فإنه (يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ) أي : سترا لصفات نفوسكم بنوره (وَفَضْلاً) وموهبة من مواهب صفاته لكم وتجلياتها كالغنى المطلق فلا يبقى فيكم خوف الفقر (وَاللهُ واسِعٌ) يسع ذواتكم وصفاتكم وعطاؤكم لا يضيق وعاء جوده بالعطاء ولا ينفد عطاياه (عَلِيمٌ) بمواقع تجلياته واستعدادها واستحقاقها.
[٢٦٩] (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) لإخلاصه في الإنفاق وكونه فيه بالله ، فيعطيه حكمة الإنفاق لينفق من الحكمة الإلهية لكونه متصفا بصفاته (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) لأنها
__________________
(١) سورة آل عمران ، الآية : ٩٢.