المستحق. فإذا منّ صاحبه فقد خالف أمر الله لأنه منهيّ وظهرت نفسه بالاستطالة والاعتداد بالنعمة والعجب والاحتجاب بفعلها ورؤية النعمة منها لا من الله ، وكلها رذائل أردأ من البخل ، لازمة له ، ولو لم يكن له إلا رؤية نفسه بالفضيلة لكفاه مبطلا. وأما الوجه الثالث الذي هو بالنسبة إلى المستحق ، فيبطله الأذى المنافي للراحة والنفع والمن أيضا مبطل له لاقتضائه الترفع وإظهار الاصطناع وإثبات حق عليه. ثم قال : (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) إذ القول الجميل ، وإن كان بالردّ ، يفرح قلبه ، ويروّح روحه ، والصدقة إنما تنفع جسده ولا تفرّح القلب إلا بالتبعية وتصوّر النفع ، فإذا قارن ما ينفع الجسد ما يؤذي الروح تكدّر النفع وتنغص ، ولم يقع في مقابلة الفرح الحاصل من القول الجميل ، ولو لم يكن مع التنغيص أيضا لأن الروحانيات أشرف وأحسن وأوقع في النفوس (وَاللهُ غَنِيٌ) عن الصدقة المقرونة بالأذى ، فيعطي المستحق من خزائن غيبه (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالعقوبة.
[٢٦٤ ـ ٢٦٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) هذا هو القسم الثاني من الإنفاق. فضّله على الأول بتشبيهه بالجنة ، فإن الجنة مع إيتاء أكلها تبقى بحالها بخلاف الحبة ، فأشار بها أنه ملك لهم كأنه صفة ذاتية ولهذا قال : (وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أي : توطينا لها على الجود الذي هو صفة ربانية ، وقوله : (بِرَبْوَةٍ) إشارة إلى ارتفاع رتبة هذا الإنفاق وارتقائه عن درجة الأول (أَصابَها وابِلٌ) أي : حظ كثير من صفة الرحمة الرحمانية ومدد وافر من فيض جوده لأنها ملكة الاتصال بالله تعالى بمناسبة الوصف واستعداد قبوله والاتصاف به (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ) أي : حظ كثير ، فحظ قليل (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) بأعمالكم يرى أنها من أيّ القبيل.
[٢٦٦ ـ ٢٦٧] (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))