أملهنّ واضممهنّ إليك بضبطها ومنعها عن الخروج إلى طلب لذاتها والنزوع إلى مألوفاتها. وقيل : أمر بأن يذبحها وينتف ريشها ويخلط لحومها ودماءها بالدق ويحفظ رؤوسها عنده ، أي : يمنعها عن أفعالها ويزيل هيئاتها عن النفس ، ويقمع دواعيها وطبائعها وعاداتها بالرياضة ، ويبقي أصولها فيه.
(ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) أي : من الجبال التي بحضرتك ، وهي العناصر الأربعة التي هي أركان بدنه ، أي : اقمعها وأمتها حتى لا يبقى إلا أصولها المركوزة في وجودك وموادّها المعدّة في طبائع العناصر التي فيك. كانت الجبال سبعة ، فعلى هذا يشير بها إلى الأعضاء السبعة التي هي أجزاء البدن (ثُمَّ ادْعُهُنَ) أي : أنها إذا أنت حييت بحياتها كانت غير طيعة مستولية عليك ، وحشية ممتنعة عن قبول أمرك ، فإذا قتلتها كنت حيا بالحياة الحقيقية الموهوبة بعد الفناء والمحو. فتصير هي حيّة بحياتك لا بحياتها ، حياة النفس مطيعة لك منقادة لأمرك فإذ دعوتها (يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب على قهر النفوس (حَكِيمٌ) لا يقهرها إلا بحكمة. ويمكن حمله على حشر الوحوش والطيور ، وعلى هذا فيكون جعل أجزائها على الجبال تغذية الجسم بها ودعاؤه وإتيانه إليه ساعية توجهها إلى الإنسان بعد النشور.
[٢٦١ ـ ٢٦٢] (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) ذكر سبحانه ثلاث إنفاقات وفاضل بينها في الجزاء ، أولها : الإنفاق في سبيل الله وهو إنفاق في عالم الملك عن تجلي الأفعال يعطيه صاحبه ليثيبه الله تعالى ، فأثابه سبعمائة أضعاف ما أعطى ثم زاد في الأضعاف إلى ما لا يتناهى بحسب المشيئة لأنّ يده تعالى أبسط وأطول من يده بما لا يتناهى. (وَاللهُ واسِعٌ) كثير العطاء ، لا يتقدّر بأعطيتنا عطاؤه (عَلِيمٌ) بنيّات المعطين واعتقاداتهم أنه من فضل الله تعالى ، فيثيبهم على حسب ذلك. وثانيها : الإنفاق عن مقام مشاهدة الصفات على ما سيأتي ، وهو الإنفاق لطلب رضاء الله كما أن الأولى هو الإنفاق لطلب عطاء الله. وثالثها : الإنفاق بالله ، وهو عن مقام شهود الذات (ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً) نبّه على أن الإنفاق يبطله المنّ والأذى ، لأن الإنفاق إنما يكون محمودا لثلاثة أوجه : كونه موافقا للأمر بالنسبة إلى الله تعالى ، وكونه مزيلا لرذيلة البخل بالنسبة إلى نفس المنفق ، وكونه نافعا مريحا بالنسبة إلى