لاستعمال السنة في العرف وقت نزول الوحي في دورة شمسية لا قمرية ، فأجمل العدد ثم بيّنه بقوله : سنين ، فاحتمل أن يكون المميز غيرها كالشهر مثلا ، ثم بين أنّ المدة سنين مبهمة غير معينة ، إذ لو قيل : ثلاثمائة شهر سنين ، فأبدل سنين من مجموع العدد ، كانت العبارة صحيحة والمراد سنين كذا عددا ، أي : خمسة وعشرين. ويؤيده قوله بعده : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا) وقال قتادة : هو حكاية كلام أهل الكتاب من تتمة سيقولون : وقوله : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ) ردّ عليهم. وفي مصحف عبد الله : وقالوا : لبثوا ، وذلك أن اليقين غير محقق ولا مطرد.
[٢٧] (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))
(وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) يجوز أن تكون من لابتداء الغاية ، والكتاب هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحى إلى من أوحى إليه ، وأن تكون بيانا لما أوحى. والكتاب هو العقل الفرقاني وعلى التقديرين (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) التي هي أصول الدين من التوحيد والعدل وأنواعهما (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً) تميل إليه لامتناع وجود ذلك.
[٢٨ ، ٢٩] (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))
(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أمر بالصبر مع الله وأهله وعدم الالتفات إلى غيره وهذا الصبر هو من باب الاستقامة والتمكين لا يكون إلا بالله (مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) أي : دائما هم الموحدون من الفقراء المجرّدين الذين لا يطلبون غير الله ولا حاجة لهم في الدنيا والآخرة ، ولا وقوف مع الأفعال والصفات (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) أي : ذاته فحسب ، يدعونه ولا يحتجبون عنه بغيره وقت ظهورها غداة الفناء ووقت احتجابها بهم عند البقاء ، فالصبر معهم هو الصبر مع الله ، ومجاوزة العين عنهم المنهي عنها هو الالتفات إلى الغير.
(إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) أي : المشركين المحجوبين عن الحق لقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١) (ناراً) عظيمة (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) من مراتب الأكوان كالطباع العنصرية والصور النوعية المادية المحيطة بالأشخاص الهيولانية (بِماءٍ كَالْمُهْلِ) من جنس الغساق والغسلين ، أي : المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار مسوّدة فيها دسومات يغاثون بها
__________________
(١) سورة لقمان ، الآية : ١٣.