ومعنى قوله : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) شهادة وجوداتهم بالدلالة وألسنة الحال على قصورهم عن الكمالات الإنسانية وتخلفهم عن شأوها ، وبتنزيه الله عن فعل ما فيه مفسدة بالإجمال ، وعلمهم بامتناع ترقيهم إلى مراتبهم بكسب العلوم ، إذ كمالاتهم مقارنة لوجوداتهم ، وبأن علمه تعالى فوق علمهم فهو العليم المطلق ، والحكيم الذي لا يفعل إلا ما ينبغي. ولهذا قال : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ) ولم يقل علمهم ، لأنّ العلم المكتسب الموجب للترقي هو من خاصية الجمعية الإنسانية فلا يقبل كل منها إلا ما في طباعه من جنس مدركاته لا غير ، وكما أن البصر مثلا من كثرة مبصراته لا يزيد علما ورتبة ولا يقبل إلا ما هو من جنس المبصرات فقط ، وإن تكثرت عنده فكذلك حال كل قوة باطنة. ومعنى : (أَلَمْ أَقُلْ) تقريره في طباع الملائكة أنه تعالى يعلم ما لا يعلمون من غيب السموات والأرض الذي هو سرّ المعرفة والمحبة المودع في الإنسان الذي استأثر الله بعلمه (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من علمكم بمفاسد الإنسان (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من ترجيحكم ذواتكم عليه لنزاهتها وتقدّسها.
[٣٤] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))
(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) سجودهم لآدم انقيادهم وتذللهم له ومطاوعتهم وتسخرهم له (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) وإبليس هو القوة الوهمية لأنها ليست من الملائكة الأرضية الصرفة المحجوبة عن إدراك المعاني بإدراك الصور ، فيذعن بالقهر مطاوعة لأمر الله ، ولا من السماوية العقلية فتدرك شرف آدم وتوافق عقله فيذعن بالمحبة طالبا لرضا الله. وكان جنيّا : أي من جملة الملكوت السفلية والقوى الأرضية ، نشأ وتربى بين ظهور الملائكة السماوية لإدراكه المعاني الجزئية وترقيه إلى الأفق العقليّ ولهذا كان في الحيوانات العجم بمنزلة العقل في الإنسان وإباؤه عدم انقياده للعقل ، وامتناعه لقبول حكمه ، واستكباره تفوّقه على الخلقة الطينية والملائكة السماوية والأرضية بعدم وقوفه على حدّه من إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات وتعدّيه عن طوره بخوضه في المعاني العقلية والأحكام الكلية. (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) المحجوبين في الأزل عن الأنوار العقلية والزوجية فضلا عن نور الوحدة.
[٣٥] (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))
(وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) زوجته : هي النفس ، وسمّيت حواء لملازمتها