للصانع ، وربهم هو المتجلّي في صورة الصنع ، إذ كل عابد لا يعبد إلا ما يعرفه ، ولا يعرف الله إلا بقدر ما وجد من الألوهية في نفسه ، وهم ما وجدوا إلا الفاعل المختار فعبدوه. وغاية هذه العبادة الوصول إلى الجنّة التي هي كمال عالم الأفعال ، فالله مهد لهم أراضي نفوسهم ، وبنى عليها سموات أرواحهم ، وأنزل من تلك السموات ماء علم توحيد الأفعال ، فأخرج به من تلك الأرض نبات الاستسلام والأعمال والطاعات والأخلاق الحسنة ليرزق قلوبهم منها ثمرات الإيقان والأحوال والمقامات ، كالصبر والشكر والتوكل.
ولما أثبت التوحيد ، استدل على إثبات النبوّة ليصح بهما الإسلام ، فإنه لا يصح إلا بشهادتين لأن مجرّد التوحيد هو الاحتجاب بالجمع عن التفصيل وهو محض الجبر المؤدّي إلى الزندقة والإباحة ، ومجرّد إسناد الفعل والقول إلى الرسول ، احتجاب بالتفصيل عن الجمع الذي هو صرف القدر المؤدّي إلى المجوسية والثنوية ، والإسلام طريق بينهما بالجمع بين قولنا : لا إله إلا الله ، وبين قولنا : محمد رسول الله ، واعتقاد مظهريته لأفعاله تعالى. فإن أفعال الخلق بالنسبة إلى أفعال الحق كالجسد بالنسبة إلى الروح ، فكما أن مصدر الفعل هو الروح ولا يتم إلا بالجسد ، فكذلك مبدئ الفعل هو الحق ولا يظهر إلا بالخلق. ولا بدّ من الرسالة لأن الخلق بسبب احتجابهم وبعدهم عن الحق لا يمكنهم تلقي المعارف من ربهم ، فيجب وجود واسطة يجانس بروحه الشاهدة للحق الحضرة الإلهية ، وبنفسه المخالطة للخلق الرتبة البشرية ، ليتلقى قلبه من روحه الكلمات الربانية ، ويلقي إلى نفسه القدسية ، ويقبل منه الخلق برابطة الجنسية فقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) أي : في تنزيلنا على محمد فتشكوا في حقيقة نبوّته ، فروزوا قواكم البشرية ، وأحرزوا عقولكم المحتنكة بالقياس ، المحجوبة عن نور الهداية ، وأفكاركم الدريّة بتركيب الكلام ونظم المعاني ، وأنتم ومن حضركم من أبناء جنسكم ، هل تقدرون على الإتيان بسورة أي : طائفة من الكلام مثله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في نسبته إلى محمد ، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) فأذعنوا وأسلموا وآمنوا ، واتركوا العناد المفضي بكم إلى النار.
فحذف الملزوم الذي هو الإيمان أو الإسلام ، وأقام لازمه الذي هو اتقاء النار مقامه ليكون أدلّ على أن الإنكار موجب لدخول النار وحصول العذاب لهم. وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) اعتراض على طريق الإخبار بالغيب للعلم بامتناع عقول المحجوبين عن مثله. والمراد بالنار احتراقهم بثورة نفوسهم ، وشرر طباعهم المصروفة عن الروح القدسيّ الروحانيّ ، والنسيم الذوقيّ الرحمانيّ ، المحرومة عن لذّة برد اليقين ، وسلامة دار القرار المقطوعة بالمألوفات الحسيّة ، واللذات البدنيّة الممنوعة ، بما ضريت به وألفته مع بقاء حنينها إليه وولهها ، ورسوخ