وأوجز ذكر الفريق الأوّل وأعرض عنهم ، إذ الكلام فيهم لا يجدي. وبالغ في ذكر الفريق الثاني ، وذمّهم ، وتعييرهم ، وتقبيح صورة حالهم ، وتهديدهم ، وإبعادهم ، وتهجين سيرهم ، وعاداتهم لإمكان قبولهم للهداية وزوال مرضهم العارض ، واشتعال نور قرائحهم بمدد التوفيق الإلهيّ عسى التقريع يكسر أعواد شكائمهم ، والتوبيخ يقلع أصول رذائلهم ، فتتزكى بواطنهم وتتنوّر قلوبهم بنور الإرادة ، فيسلكوا طريق الحق. ولعل موادعة المؤمنين وملاطفتهم إياهم ومجالستهم معهم ، تستميل طباعهم فتهيج فيهم محبة مّا ، وشوقا تلين به قلوبهم إلى ذكر الله ، وتنقاد به نفوسهم لأمر الله ، فيتوبوا ويصلحوا كما قال الله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦)) (١).
[٢١ ـ ٢٤] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))
(يا أَيُّهَا النَّاسُ) ثم لما فرغ من ذكر السعداء والأشقياء ، دعاهم إلى التوحيد. وأوّل مراتب التوحيد : توحيد الأفعال ، فلهذا علّق العبودية بالربوبية ليستأنسوا برؤية النعمة ، فيحبوه ، كما قال : «خلقت الخلق وتحببت إليهم بالنعم». فيشكروه بإزائها ، إذ العبادة شكر فلا تكون إلا في مقابلة النعمة ، وخصص ربوبيته بهم ليخصوا عبادتهم به ، وقصد رفع الحجاب الأول من الحجب الثلاثة التي هي حجب الأفعال والصفات والذات ، ببيان تجلي الأفعال لأن الخلق في الثلاثة كلهم محجوبون عن الحق بالكون مطلقا ، فنسب إنشاءهم وإنشاء ما توقف عليه وجودهم من المبادئ والأسباب والشرائط كمن قبلهم من الآباء والأمهات ، وجعل الأرض فراشا لهم لتكون مقرّهم ومسكنهم ، وجعل السماء بناء لتظلهم ، وأنزل الماء من السماء وأخرج النبات به من الأرض ليكون رزقا لهم إلى نفسه لعلهم يتقون نسبة الفعل إلى غيره ، فيتنزهون عن الشرك في الأفعال عند مشاهدة جميعها من الله ، ولهذا ذكر نتيجة هذه المقدّمات بالفاء فقال : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، ما ذكرنا من المقدمات كأنه قال : هو الذي فعل هذه الأفعال ، فلا تحق العبادة إلا له ، ولا تنبغي أن تجعل لغيره ، فلا تجعلوا له ندّا بنسبة الفعل إليه ، فيستحق أن يعبد عندكم فتعبدوه مع علمكم بهذا. فعبادتهم إنما هي
__________________
(١) سورة النساء ، الآيات : ١٤٥ ـ ١٤٦.