(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ إلى قوله ـ (عَظِيمٌ) هم الفريق الأول من الأشقياء الذين هم أهل القهر الإلهي لا ينجح فيهم الإنذار ولا سبيل إلى خلاصهم من النار ، أولئك حقّت عليهم كلمة ربّك أنهم لا يؤمنون ، وكذلك حقّت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار ، سدّت عليهم الطرق ، وأغلقت عليهم الأبواب ، إذ القلب هو المشعر الإلهيّ الذي هو محلّ الإلهام ، فحجبوا عنه بختمه. والسمع والبصر هما المشعران الإنسيان ، أي الظاهران اللذان هما بابا الفهم والاعتبار ، فحرموا عن جدواهما لامتناع نفوذ المعنى فيهما إلى القلب ، فلا سبيل لهم في الباطن إلى العلم الذوقيّ الكشفيّ ولا في الظاهر إلى العلم التعلميّ والكسبيّ ، فحبسوا في سجون الظلمات ، فما أعظم عذابهم.
[٨] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) هم الفريق الثاني من الأشقياء ، سلب عنهم الإيمان مع ادّعائهم له بقولهم (آمَنَّا بِاللهِ) لأنّ محلّ الإيمان هو القلب لا اللسان. (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (١). ومعنى قولهم : آمنا بالله (وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) ادّعاء علمي التوحيد والمعاد اللذين هما أصل الدين وأساسه أي لسنا من المشركين المحجوبين عن الحق ولا من أهل الكتاب المحجوزين عن الدين والمعاد ، لأن اعتقاد أهل الكتاب في باب المعاد ليس مطابقا للحق. واعلم أن الكفر هو الاحتجاب ، والحجاب إما عن الحق كما للمشركين وإمّا عن الدين كما لأهل الكتاب ، والمحجوب عن الحق محجوب عن الدين الذي هو طريق الوصول إليه ضرورة ، وأما المحجوب عن الدين فقد لا يحجب عن الحق ، فهؤلاء ادّعوا رفع الحجابين معا فكذبوا بسلب الإيمان عن ذواتهم ، أي ليسوا بمؤمنين ما داموا إياهم يخادعون. المخادعة استعمال الخدع من الجانبين ، وهو إظهار الخير واستبطان الشرّ. ومخادعة الله مخادعة رسوله صلىاللهعليهوسلم لقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢) ، وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٣) ولأنه حبيبه.
وقد ورد في الحديث : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر ، ولسانه الذي به يتكلم ، ويده الذي بها يبطش ، ورجله الذي بها يمشي» فخداعهم لله وللمؤمنين إظهار الإيمان والمحبة ، واستبطان الكفر
__________________
(١) سورة الحجرات ، الآية : ١٤.
(٢) سورة النساء ، الآية : ٨٠.
(٣) سورة الأنفال ، الآية : ١٧.