هي الأموال والأسباب ، كما قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «ألا وأنّ من النعم سعة المال ، وأفضل من سعة المال صحة الجسد ، وتقوى القلب».
ويجب الاحتراز عن الأوليين لإحراز الأخيرة المطلوبة بالزهد والعبادة. فإقامة الصلاة ترك الراحات البدنية وإتعاب الآلات الجسدية ، وهي أمّ العبادات التي إذا وجدت لم يتأخر عنها البواقي (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (١) إذ هي تحامل على البدن والنفس ، ومشقة فادحة عليهما ، وإنفاق المال هو الإعراض عن السعادة الخارجية المحبوبة إلى النفس المسمّى بالزهد ، فإن الإنفاق ربما كان أشدّ عليها من بذل الروح للزوم الشحّ إياها ، ولم يكتف بالقدر الواجب فقال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ليعتاد القلب ترك الفضول المالية بالجود والسخاء وبذل المال ، في وجوه المروّات ، والهبات ، والصدقات الغير الواجبة ، فيوقي شحّ نفسه ، وخصص الإنفاق بالبعض بإيراد من التبعيضية لئلا يقع في رذيلة التبذير ببذل القدر الضروري فيحرم فضيلة الجود الذي هو من باب التخلق بأخلاق الله.
[٤ ـ ٥] (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))
(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي : الإيمان التحقيقيّ الشامل للأقسام الثلاثة المستلزم للأعمال القلبية التي هي التحلية ، وهي تفرّس القلب بالحكم والمعارف المنزّلة في الكتب الإلهية والعلوم المتعلقة بأحوال المعاد ، وأمور الآخرة ، وحقائق علم القدس. ولهذا قال : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وأهل الآخرة الذين ما جاوزوا حدّ التزكية ، ولم يصلوا إلى التحلية التي هي ميراثها ، لقوله عليهالسلام : «من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم». وأهل الله الموقنون الجامعون لها كلهم على هدى من ربهم إمّا إليه وإما إلى داره ، دار السلامة والفضل والثواب واللطف ، وهم أهل الفلاح لا غير أما من العقاب وأما من الحجاب ولهذا قال : (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفات المذكورة من التزكية والتحلية. (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) لأجلها ، فعلى هذا الذين يؤمنون مبتدأ ، والذين يؤمنون الثاني معطوف عليه ، وأولئك خبره ، ولو جعل صفة للمتقين لكان المراد بهم الكاملين في التقوى بعد الهداية. وكان مجازا من باب تسمية الشيء بما سيؤول إليه.
[٦ ـ ٧] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))
__________________
(١) سورة العنكبوت ، الآية : ٤٥.