يبدّل الله سيئاتهم حسنات ، والمعذبون حينا بحسب ما رسخ فيهم من المعاصي حتى خلصوا عن درن ما كسبوا ، فنجوا وهم أهل العدل والعقاب ، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا. لكن الرحمة تتداركهم وثلاثتهم أهل الآخرة.
والسابقون إمّا محبون وإمّا محبوبون ، فالمحبون هم الذين جاهدوا في الله حقّ جهاده ، وأنابوا إليه حقّ إنابته ، فهداهم سبله. والمحبوبون هم أهل العناية الأزلية الذين اجتباهم وهداهم إلى صراط مستقيم. والصنفان هما أهل الله ، فالقرآن ليس هدى للفريق الأول من الأشقياء لامتناع قبولهم للهداية لعدم استعدادهم ، ولا للثاني لزوال استعدادهم ومسخهم وطمسهم بالكلية بفساد اعتقادهم ، فهم أهل الخلود في النار إلا ما شاء الله. فبقي هدى للخمسة الأخيرة الذين يشملهم المتقون ، والمحبوب يحتاج إلى هداية الكتاب بعد الجذب والوصول لسلوكه في الله لقوله تعالى لحبيبه كذلك : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) (١) ، وقوله : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) (٢). والمحبّ يحتاج إليه قبل الوصول والجذب وبعده لسلوكه إلى الله وفي الله.
فعلى هذا ، المتقون في هذا الموضع هم المستعدّون الذين بقوا على فطرتهم الأصلية ، واجتنبوا رين الشرك والشك لصفاء قلوبهم وزكاء نفوسهم ، وبقاء نورهم الفطري ، فلم ينقضوا عهد الله. وهذه التقوى مقدّمة على الإيمان ، ولها مراتب أخرى متأخرة عنه كما سيأتي إن شاء الله.
[٣] (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))
(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي : بما غاب عنهم الإيمان التقليديّ ، أو التحقيقيّ العلميّ ، فإنّ الإيمان قسمان : تقليديّ وتحقيقيّ. والتحقيقيّ قسمان : استدلالي وكشفيّ ، وكلاهما إمّا واقف على حدّ العلم والغيب ، وإما غير واقف. والأول هو الإيقان المسمّى علم اليقين. والثاني : إمّا عيني ، وهو المشاهدة المسمى عين اليقين ، وإما حقّي ، وهو الشهود الذاتي المسمّى حق اليقين. والقسمان الأخيران لا يدخلان تحت الإيمان بالغيب ، والإيمان بالغيب يستلزم الأعمال القلبية التي هي التزكية ، وهي تطهير القلب عن الميل إلى السعادات البدنية الخارجية ، الشاغلة عن إحراز السعادة الباقية. فإن السعادات ثلاث : قلبية ، وبدنية ، وما حول البدن. فالقلبية هي المعارف ، والحكم ، والكمالات العلمية والعملية الخلقية. والبدنية هي الصحة والقوّة واللذّات الجسمانية والشهوات الطبيعية. وما حول البدن
__________________
(١) سورة الفرقان ، الآية : ٣٢.
(٢) سورة هود ، الآية : ١٢٠.