من حيث هو كلّ لأنه مبين لذلك الكتاب الموعود على ألسنة الأنبياء وفي كتبهم بأنه سيأتي كما قال عيسى عليهالسلام : «نحن نأتيكم بالتنزيل ، وأما التأويل فسيأتي به المهديّ في آخر الزمان». وحذف جواب القسم لدلالة ذلك الكتاب عليه ، كما حذف في غير موضع من القرآن مثل (والشمس) (والنازعات) وغير ذلك. أي إنّا منزلون لذلك الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل بأن يكون مع محمد حذف لدلالة قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) عليه أي : ذلك الكتاب المعلوم في العلم السابق ، الموعود في التوراة والإنجيل حق بحيث لا مجال للريب فيه. (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي هدى في نفسه للذين يتقون الرذائل والحجب المانعة لقبول الحق فيه.
واعلم أن الناس بحسب العاقبة سبعة أصناف لأنهم : إمّا سعداء ، وإمّا أشقياء. قال الله تعالى : (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) (١) ، والأشقياء أصحاب الشمال ، والسعداء إمّا أصحاب اليمين ، وإمّا السابقون المقرّبون. قال الله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) (٢) الآية. وأصحاب الشمال إمّا المطرودون الذين حقّ عليهم القول وهم أهل الظلمة والحجاب الكلي المختوم على قلوبهم أزلا ، كما قال تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٣) إلى آخر الآية. وفي الحديث الربانيّ : «هؤلاء خلقتهم للنار ولا أبالي». وأما المنافقون الذين كانوا مستعدّين في الأصل ، قابلين للتنوّر بحسب الفطرة والنشأة ، ولكن احتجبت قلوبهم بالرين المستفاد من اكتساب الرذائل وارتكاب المعاصي ، ومباشرة الأعمال البهيمية ، والسبعية ، ومزاولة المكايد الشيطانية ، حتى رسخت الهيئات الفاسقة والملكات المظلمة في نفوسهم ، وارتكمت على أفئدتهم فبقوا شاكين حيارى تائهين ، قد حبطت أعمالهم ، وانتكست رؤوسهم فهم أشدّ عذابا وأسوأ حالا من الفريق الأول لمنافاة مسكة استعدادهم لحالهم. والفريقان هم أهل الدنيا وأصحاب اليمين.
أما أهل الفضل والثواب ، الذين آمنوا وعملوا الصالحات للجنة راجين لها ، راضين بها ، فوجدوا ما عملوا حاضرا على تفاوت درجاتهم ، ولكلّ درجات مما عملوا. ومنهم أهل الرحمة الباقون على سلامة نفوسهم ، وصفاء قلوبهم ، المتبوّؤن درجات الجنة على حسب استعداداتهم من فضل ربهم ، لا على حسب كمالاتهم من ميراث عملهم.
وأما أهل العفو الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، وهم قسمان : المعفوّ عنهم رأسا لقوة اعتقادهم ، وعدم رسوخ سيئاتهم لقلّة مزاولتهم إياها ، أو لمكان توبتهم عنها. فأولئك
__________________
(١) سورة هود ، الآية : ١٠٥.
(٢) سورة الواقعة ، الآية : ٧.
(٣) سورة الأعراف ، الآية : ١٧٩.